أجلس أمام النار التى أشعلها برما فى قروانة الأسمنت أمام منزله أنتظره، كان البرد قد اشتد عليه فقال «هادخل ألبس حاجة تدفّينى»، ثم خرج فى منتهى الأناقة، قلت له: «جامد البالطو ده يا برما»، اندهش دهشة حمدى بدين، عندما سمع الناس تهتف فى الكنيسة: يسقط يسقط حكم العسكر.. ثم قال: «ده مش بالطو، ده جاكيت البدلة بتاع جدى الله يرحمه».
«جدك كان من رواد الجيم يا برما أكيد» قلت له، فقال: بالعكس لقد كان قزمًا مقارنة بإخوته، يجب أن تعرف يا صديقى أننا كمصريين «عمالين نكشّ»، ونتضاءل بمرور الوقت، لقد كانت مقاسات البشر فى الأربعينيات والخمسينيات أسطورية.
قلت له: مش فاهم.
فقال: يمكنك أن تلاحظ هذا فى مقاسات البيوت بتاعت زمان، كان فى كل بيت صالة ذات مساحة تستطيع بالكاد أن تستوعب حركة هؤلاء العمالقة، بدليل أنك إذا سكنت واحدة من هذه الشقق حاليًّا ستستطيع أن تربّى فى ناحية منها غية حمام، تفتح أبوابها ليحلِّق الحمام فى الصالة طوال النهار، ثم تقف حاملا العلم فى آخر الصالة بنهاية اليوم حتى يعود الحمام إلى الغِيَّة سالمًا، ولا يضل الطريق فى الصالة، أما إذا لم تكن من هواة الحمام، فيمكنك أن تقسم الصالة إلى ورشتين لتصنيع الأحذية، هذا الجيل ألهمته مقاساته فكرة البراح، أما مقاساتنا نحن فقد ألهمتنا فكرة «البارتيشن».
قلت له: يا لك من شخص أُوفَر يا برما!!
فقال: بلاش الشقق، ستقول لى: إنهم كانوا يشيّدون بيوتهم من وسع، عندك سيارات هذا الجيل التى تبدو كأنها قطع حربية شيك، يا دوب تستوعب رجلا وأسرته الصغيرة، لن أحدّثك عن الرفرف المبالَغ فيه، أو الكَبُّوت الذى يماثل مساحة غرفة حارس عقار هذه الأيام، ولكن تأمَّلْ معى حجم الدريكسيون فى أفلام عماد حمدى، أليس هو نفسه مقاس دريكسيون أوتوبيس نقل عام فى زمننا هذا؟
صببت له الشاى فأخذ رشفة ثم قال: ثم تأمل معى مقاسات البشر أنفسهم، يعنى لو أخذت حسين رياض من فيلم «العزيمة»، كما هو ووضعته فى حلقة توك شو ستعتقد من مظهره وحجمه أنه العميد السابق لحقوق القاهرة، عُد به إلى الفيلم كما هو ستجده يا دوب طالب حصل على التوجيهية منذ أيام، ويبحث عن عمل شريف حتى يتسنى له الزواج من ابنة الجيران، التى دهسها تقبيلًا فى بير السلم كمدرعة يقودها جندى مرتبك.
الأرواح نفسها كانت ضخمة، عندك مثلا أرواح السَمِّيعة كانت على قدر من الضخامة، بحيث يشبعها بالكاد عشرة خمستاشر إعادة لمقطع واحد من أغنية للست أم كلثوم.
كانت كل المصالح الحكومية والوزارات واللوكاندات ومقرات الصحف والقصور فى هذا الوقت تحتوى فى مداخلها على مساحة ضخمة مهيبة يسمونها «البهو».. ظل البهو يكش يكش حتى أصبح مجرد ريسيبشن فى وقتنا الحالى، وفى شققهم كانوا يحتاجون إلى مساحة تناسبهم يطلّون منها على الشارع، فكانت أسطورة «الفراندة»، وظلت تكش ونحن نكش حتى أصبحت مجرد بلكونة، قد تستطيع أحيانًا أن تقفلها بالألوميتال ليقيم فيها أحد أفراد الأسرة المصاب بالأنيميا والتوحد.
لا أتحدث عن القصور، فالشقق نفسها كان بها مساحات مخصصة لاحتياجاتهم الضخمة، فهناك حجرة للخزين «تم حاليًّا استبدال كومودينو الهلال والنجمة الذهبية ذى الأدراج الستة بها»، وهناك حجرة للغسيل «تم استبدال سَبَت بها»، وهناك حجرة للمسافرين، ومن الأخطاء الشائعة أن نعتقد أنها كانت مخصصة للمسافرين، الضيوف القادمين من جهات بعيدة.. الحقيقة أنها كانت أوضة فى نهاية الشقة لراغبى الهدوء من أهل الشقة نفسها، ولكن كان الذهاب إليها بمثابة سفر، لذلك لقّبوا مَن يقطنها بالمسافرين.
لعلمك أيضًا كانت مقاساتهم تكبر بسرعة، تأمَّلْ ماتشات الكرة فى هذه الفترة.. كان اللعيبة يفصّلون الشورتات الدَّمُّور قبل بداية الموسم على يد ترزية مهرة يجيدون ضبط المقاسات، لكن على بال ما يستلموا الشورتات يكونوا تعملقوا بزيادة، لدرجة أن هذه الشورتات كانت تغطّى بالكاد مفاصل أفخاذ اللعيبة.. لقد كانت «لباليب» هذا الجيل نقطة مضيئة فى تاريخ الكرة المصرية!
قلت له: وكيف انقرضت هذه المقاسات؟
فقال: هؤلاء الرجال العمالقة ماتوا خلال حرب السنوات الست، وظهر على الساحة رجال الجيل الثانى وكانت مقاساتهم مدعاة للسخرية، لذلك حاولوا أن يعوِّضوا هذا الفارق بأفكار جلبت لهم مزيدًا من السخرية، مثل أن يعملقوا السوالف أو يضيفوا إلى أطوالهم سنتيمترات بالشعر الهائش، أو بالإفراط فى مقاسات رجل البنطلون.. كان الشارلستون محاولة لإخفاء الطفرة الخبيثة فى مقاسات الأقدام، بعد أن انقرضت مقاسات أقدام جيل العمالقة التى استهلكوها فى دك خط بارليف.
قلت له: بدأت أصدقك يا برما.
فقال: خدها حكمة منِّى.. منذ خمسين عامًا أو أكثر كان «الإكس لارج» فى مقاس الرجال هو القاعدة، وكان كل ما هو «دون» ذلك استثناء، لذلك كانت الشتيمة السائدة وقتها يا راجل يا «دون»، الآن انقلبت الآية بحيث أصبح الاستثناء مجرد بودى جارد تتم الاستعانة بهم لمواجهة القاعدة «الراجل الدون».