نعيش هذه الأيام في مجتمع ملىء بالعنف, إلى درجة أن صار التحريض علي القسوة شيئًا عاديًا, وأصبح تقبل حوادث العنف مثل وجبة الإفطار.
ولأن هذا شىء مقزز قررت أن أقوم بالتحريض علي شىء آخر, قررت أن أحرض علي البطولة.
ماهي البطولة؟ يوسف إدريس قام بوصف البطولة والبطل في رائعته «أنا سلطان قانون الوجود» قائلا: «لا مجد للبطولة بلا مجد للكرامة, بلا مجد للنبوغ, بلا مجد للشرف, بلا مجد للعمل الصالح. وأيضا لا توجد بطولة بلا جو عام تلعن فيه اللابطولة وتجتث كالحشائش الضارة منه وتجتث معها حشائش سامة أخرى كالجبن, كالتفاهه, كالنفاق, كالكذب، أما حين ينجح الجميع, المجتهد والغشاش, والمزور والأبله والنابغ, حين يصبح لا فرق, لا أعلى ولا أسفل, لا أرفع ولا أحط, حين تمضى الحياة بامتحان لا يرسب فيه أحد ولا يتفوق فيه أحد ولا يفصل فيه أحد, حين يحدث هذا, ماذا يبقي من الإنسان».
ومن أجل أن يبقى في داخلنا «الإنسان» أقوم بتحريضك علي البطولة؟ إنما كيف؟ توضيح هذا يقتضي أن أشير إلى أنني أحب القصص المصورة.
فالقصص المصورة تجمع بين القراءة والمشاهدة, فهي تجعلك تتخيل الحركة وأصوات الأبطال والمؤثرات الصوتية وفي الوقت نفسه فإنها عادة ما تقدم لك رسومات علي مستوي عال من الجودة الفنية وقصة ذات حبكة جيدة تدور دائما حول «بطل».
بطلي المفضل هو «باتمان».
باتمان أو الرجل الخفاش هو أحد الأبطال «الخارقين» يسكن في مدينة «جوثام» (مدينة خيالية) شخصيته خارج زي باتمان هي الملياردير «بروس واين», فتي مدينة «جوثام» المدلل, رأي «بروس» مقتل والديه أمام عينيه وهو في سن الثامنة عن طريق لص حاول سرقتهم بعد خروجهم من عرض للمسرح.
أثرت تلك الحادثة في نفسية الطفل «بروس» وقرر أن يفعل كل ما في وسعه لتطهير مدينته من الفساد والجبن والتفاهة والكذب والنفاق الذي استشرى بها, فقام بتدريب جسده علي فنون القتال المختلفة, كما قام بتدريب عقله علي التفكير البناء والمنطقي كي يحل الجرائم والمشاكل التي تواجهه حتي تم إطلاق لقب «أعظم محقق في العالم» علي باتمان.
بجانب كونه «باتمان» يقوم «بروس واين» بالعديد من الأعمال الخيرية في مدينة «جوثام» كبناء مراكز لإيواء الفقراء والمحتاجين وأطفال الشوارع ومستشفيات مجانية وغيرها من الأعمال التي تعود بالنفع علي مجتمع المدينة.
كل هذا يفعله «بروس» في النهار, ولكن يأتي الليل فيرتدي عباءة «باتمان» فالخفافيش كائن ليلي.
لماذا اختار «بروس» كائن الخفاش ليكون رمزا له؟ لأنه في طفولته كان يخاف الخفافيش, وفي آخر عيد للقدسيين «الهالوين» (عيد أمريكي يقوم الناس بارتداء أزياء مختلفه فيه) قضاه «بروس» مع والديه قبل أن يقتلا تنكر والده في زي خفاش ليفاجئ «بروس» ظنا منه أن ذلك سيساعده علي تجاوز خوفه من الخفافيش ولكن هذا لم يحدث. فوقع اختيار «بروس» علي الخفاش لأن هذا يعني أنه استطاع التغلب علي مخاوفه جميعا.
والسبب الآخر أنه أثناء دراسة «بروس» علم الإجرام تعلم أن المجرمين في طبيعتهم كائنات «تخاف ولا تختشي» فأراد أن يبث الرعب في نفوسهم ووجد في الخفاش- الكائن الوحيد الذي كان يخيفه- ضالته.
ما الذي يجعل «باتمان» بطلي المفضل؟ السبب هو إنسانيته. فعلى العكس من كل «الأبطال الخارقين» الآخرين، نجد أن «باتمان» مجرد إنسان. فهو لا يستطيع الطيران, ليس منيع ضد الرصاص, لايستطيع الرؤية خلف الجدران, ولا يملك خاتم يقوم باتباع إرادته, ولا سرعة خارقة ولا أي شىء آخر مما يستطيع فعله العديد من الأبطال الخارقين المعروفين.
«باتمان» إنسان مثلنا جميعا, الفارق الوحيد بيننا وبينه أنه قرر أن يكون بطلًا ويقف بجانب الحق في وجه الظلم والعدوان, حتي ولو كان الظلم أقوي منه, فهو يستخدم عقله ليخطط الطريقة الأمثل لإنهاء سطوة الظلم.
«باتمان» يقدر الحياة البشرية, القاعدة الأولي والوحيدة في كتابه هي «لا للقتل».
ولأن «باتمان» إنسان مثلنًا جميعًا فمن الطبيعي أن يمثل أعداؤه انعاكاسات لأشياء يحاول البشر محاربتها في حياتهم اليومية, فعلي سبيل المثال «الجوكر» العدو اللدود لباتمان هو التجسيد الحي للعنف والغضب الذي يؤدي إلي فوضى, و«خيال المآته» أو «سكايركرو» هو تجسيد للخوف, «البطريق» أو «بنجوين» هو تجسيد للكسل وكيفية سرقة مجهود الآخرين, «القناع الأسود» أو «بلاك ماسك» هو تجسيد للجشع, وغيرهم من الأشرار الذين يقوم باتمان بمحاربتهم مرارا وتكرارا في رمزية، لأن الإنسان يجب أن يحارب مثل تلك الأمراض طوال حياته.
«باتمان» يحفر في أذهان من يقومون بقراءة قصصه أنك لا تحتاج لقوة خارقة كي تكون بطلا, تحتاج فقط العزيمة للتغلب علي مخاوفك والوقوف في جانب الحق دائما كي تصبح بطلا.
من الممكن أن تصبح أنت أيضا بطلا إذا أردت, إذا قمت بالإتقان والإخلاص في عملك أنت بطل, إذا قمت بمساعدة فقير أنت بطل, إذا قمت بمنع تحرش يقع علي فتاه أنت بطل, إذا أعطيت بعض الطعام لحيوان ضال في الشارع أنت بطل, إذا قلت كلمة حق عند سلطان جائر أنت بطل.
اخترت «باتمان» تحديدًا كمثال للبطل الإنسان لأن «باتمان» احتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين منذ عدة أسابيع, 75 عاما من بث في أذهان قارئيه ومشاهديه فكرة أن التمسك بالإنسانية يجعل من الإنسان الطبيعي بطلًا.
واخترته أيضا لأننا في بلد تُلعن فيه البطولة والإنسانية, ولا يوجد كرامة لمواطنيه فيه, بلد يريد كباره قتل أطفاله.
بلد يلعن فيه نوابغه ويضطرون للسفر إلي الخارج, بلد يموت فيه شرفاؤه ويعيش فيه كثير من حقرائه, ومن يعمل فيه عملًا صالحًا لوجه الله يُتهم بالعمالة، وكأنه لا يوجد سبب يدفعك للاهتمام بمستقبل الوطن إلا أن تكون «قابض من بره».
للأسف تحولت مصر إلي «جوثام» كبيرة, لذلك تحتاج إلي «باتمان».
كونوا جميعا «باتمان».