الفارق ضخم وهائل بين الداعية الواعظ والعالم الفقيه.
الداعية أو الواعظ فى الغالب ظاهرة صوتية شفوية، تعتمد على جلال الصوت وقوة الحنجرة والأداء الحركى والتعبيرى، ويخاطب العوام وغير المتبحرين فى العلم أو حتى التعليم، جمهوره من البسطاء فى الثقافة الدينية مهما بلغت درجة تعليمهم، ومهما وصلت درجة ثرائهم أو فقرهم.
الداعية لم يكتب حرفًا فى الغالب على ورقة، ولم يُصدر كتابًا ولا مؤلَّفًا يجمع أفكارًا ورؤى ولم يقدم منهجًا جديدًا فى الفهم ولا دراسات معمَّقة ولا قراءات متجددة فى الفقه والفكر الإسلامى، بل هو وسيط صوتى وناقل شفوى وليس صاحب منهج أو منطق أو مدرسة. هو أقرب إلى الإعلامى المتخصص، وربما يتم جمع أعماله الشفوية وصياغتها على عجل فى كتاب أو كتيب لا يرقى إلى كتاب فى العلم.
أما العالم المفكر فهو ليس بالضرورة خطيبًا مفوَّهًا ولا صاحب برنامج ولا مقدمًا فى قناة دينية، لكنه باحث دارس عاكف على العلم والنَّهْل من الكتب لا من حفّاظ الدروس الذين لا يعطون أنفسهم مهلة ولو يومًا فى الأسبوع لقراءة كتاب أو دراسة، بل مستغرقون تمامًا وكليًّا فى مواعظ التليفزيون ورحلات التسويق للذات!
المشكلة (بل الكارثة) فى هذا الذى يجعل من مناقشة داعية أو واعظ وتفنيد آرائه طعنًا فى الدين نفسه -وفى الإسلام ذاته- ويجعل من منتقديه أعداءً للدين، فالشيوخ هم الناطقون بالإسلام، فى زعمهم، فإذا نالوا منهم فقد ظنوا أنهم نالوا من الإسلام.. وأن العلماء هم ورثة الأنبياء فى إبلاغ الرسالة، وهذه حجة حلوة من الممكن أن يلجأ إليها أى داعية أو واعظ. أى واحد يمكن أن يدَّعى أن كل هجوم موجّه إليه وانتقاد ضده وتفنيد لآرائه إنما هو طعن فى ورثة الأنبياء.
ونحن نقول:
(أ) إن الخوارج الذين عاثوا فى الأرض فسادًا إنما كان معظمهم من حَفَظَة القرآن وخيرة قرائه.. ولم يمنعهم ذلك من الضلال الفكرى.
(ب) إن العلماء ليسوا هم الدعاة والوعاظ، بل وليسوا فقط الباحثين الدارسين المتبحرين فى الدين، بل هم أيضًا الذين يقدمون للإنسانية علمًا نافعًا فى العلوم والطب والهندسة والفلك والفنون والعمارة، وكل هؤلاء ورثة رسالة الأنبياء.
(ج) ثم إن الحكمة المتداولة فى التاريخ الإسلامى «خذ بعلمى ولا تركن إلى عملى، وأحبَّ الثمار وخَلِّ العودَ للنار» تؤكد أن من ينقل العلم لذاته قد لا يكون مهتديًا، بل قد يكون ضالاًّ، وإننا لا بد أن ننظر إلى علمه لا إلى عمله.. والعلماء من هذا الصنف ليسوا ورثة أنبياء، فلا ازدواج ولا انفصام ولا تناقض بين علم الأنبياء وعملهم.
عمومًا نحن فى زمن الدعاة.. والمدَّعين كذلك، مدَّعى العلم ومدَّعى احتكار الدين المحصنين من المدَّعين بالحق المدنى!!