نعم سأعرض فيلم «نوح»، لا يهم مستوى الفيلم، ولا أنّ أغلب بلاد الدنيا قد أُتيح لها مشاهدته وبينها دول إسلامية وعربية، الأهم: هل هذا التصريح الذى أدلى به وزير الثقافة الجديد د.جابر عصفور للكاتب الصحفى والإعلامى حمدى رزق، فى برنامجه على «صدى البلد» ينبئ ببداية صراع داخل الدولة؟ والأهم: هل عصفور يحمل مواصفات المثقف الذى من الممكن أن يختلف مع الدولة؟
لا تزال قناعتى أن وزير الثقافة الحالى، مع وافر الاحترام لتاريخه الفكرى، كان الذراع الطولى والأقوى فى زمن فاروق حسنى لتدجين المثقفين ودفعهم إلى الحظيرة، وأنه شارك فى آخر وزارة شكّلها مبارك بعد ثورة 25 يناير لإنقاذ دولته ونظامه ونفسه وعائلته من السقوط، وكان مدركا تماما أن هذا هو دوره الوحيد، ورغم ذلك وافق على أن يقف على الجانب الآخر من مشاعر الجماهير الثائرة. لا يعنى ذلك -كما حاول أحد الكتاب وهو يدافع عن عصفور بسذاجة وسطحية أو ربما بتعمد السذاجة والسطحية ليضمن كعادته قضمة كبيرة من «التورتة»- تعمُّد الكاتب قراءة المقال على هذا النحو بأن كل من شارك فى زمن مبارك لا يصح أن يواصل العطاء فى زمن السيسى، بينما ما ذكرته تحديدًا هو أن كل من لعب دورًا قياديًّا وحاول إجهاض الحلم، لا يصح أن يصبح هو أيضا عنوان الحلم بعد ثورتى 25 و30.
ومن يرِد مزيدًا من التفاصيل أُحِله إلى مقالى قبل خمسة أيام «عصفور وفروق التوقيت» ورغم ذلك فإن ما يعنينى اليوم هو أن هذا التصريح الذى أعلنه وزير الثقافة يعنى شيئًا واحدًا هو أن الأزهر لن يحكمنا ثقافيا.
كان د.جابر عصفور قد أصدر قبل عشر سنوات، كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة، قرارًا بعرض فيلم «المسيح»، وهو ما يرفضه الأزهر بسبب تحريمه تجسيد الأنبياء. الفارق هو أن الأزهر وقتها لم يعترض ولم تُثر القضية على الرأى العام، وربما كانت هناك تعليمات للأزهر بأن يحتفظ بهدوئه، فلم يحرك ساكنا، هذه المرة مع «نوح» الغضب معلن والموقف تناولته كل الفضائيات، وعلى هذا أصبح جابر عصفور فى مواجهة صريحة مع المؤسسة الدينية.
الشيخ أحمد الطيب فى حوار مع عدد من الكتاب والفنانين قال إن الأزهر لا يملك سلطة تنفيذية وإنه فقط يقول رأيه، وأضاف: مصر ليست دولة دينية، بل الإسلام نفسه كدين ومنذ أن تولّى الخلافة أبو بكر الصديق لا يعترف بالسلطة الدينية، ورغم ذلك فإن ما حدث وما يجرى على أرض الواقع يؤكد أن الدولة لا يمكن أن تسمح ببداية صراع بين سلطة دينية حصلت على ضوء أخضر يتيح لها التدخل بإعلان الرأى، ووزير ثقافة يطالب بإبعاد الأزهر عن الأحكام الفنية.
هناك توجه داخل الدولة، شاهدنا عديدًا من إرهاصاته لفرض رؤية دينية وأخلاقية مباشرة على الأعمال الفنية، قرأها والتقطها الوزير السابق د.صابر عرب أملا فى أن يمد محلب فى عمره فى الوزارة بضعة أشهر قادمة، بينما رأت الدولة أن هذا زمن عصفور.
تستطيع ببساطة أن تُدرك أن هناك توجهًا لفرض عدد من القيود على كل مناحى الحياة، والمطلوب من القيادات كلٌّ فى موقعه، الرقص على هذا الإيقاع، والرسالة التى وصلت هى أنه على الوزير أن يمهد لرقابة ترتدى زيًّا أخلاقيًّا بدعوى حماية الثوابت الاجتماعية، لتبدأ فى ممارسة المنع والحذف والضبط والربط. معركة عصفور الحقيقية ليست فى عرض «نوح» ولكن فى الإجابة عن هذا السؤال: هل هو قادر على التصدى لموجة عاتية من القيود لتكبيل الأدب والثقافة والفنون أم أنه سيتحول إلى قفاز ناعم لتبريرها وتمريرها؟!