أظن أنه ليس هناك أى مفاجأة فى عاصفة الاستياء والاحتجاجات الدولية، التى هبّت علينا من كل صوب وحدب تعليقا على الحكم الثانى (فى أقل من شهرين)، الذى أصدرته، أول من أمس، محكمة جنايات المنيا، وقضى بإعدام 183 متهما، منهم مرشد عصابة «إخوان الشياطين» محمد بديع، بعد إدانتهم بارتكاب أعمال عنف وقتل وتخريب يشيب من هولها الولدان.. لماذا هذه العاصفة ليس فيها خبر جديد ولا شىء مفاجئ؟!، لسببين اثنين، أولهما أن عقوبة الإعدام تواجه من الأساس حملة رفض عالمى وإنسانى تتجذر وتتسع يوما بعد يوم، ويكفى للدلالة على مستوى النجاح الذى بلغته حتى الآن أن ثلثى دول العالم إما ألغت هذه العقوبة من قوانينها تماما ونهائيا (98 دولة) وإما أوقفت العمل بها منذ سنوات من دون حذفها من القوانين (35 دولة) وإما ألغتها جزئيا (7 دول) من التشريعات التى تتعلق بالجرائم العادية وأبقتها قائمة فى طائفة محدودة من الجرائم الاستثنائية مثل تلك المنصوص عليها فى القوانين العسكرية.
إذن فإن إجمالى عدد دول المجموعات الثلاث يبلغ حاليا 140 دولة مقابل 58 فقط، ما زالت تطبق هذه العقوبة الموصوفة بأنها من بقايا عصور «الطفولة الحضارية» ومن الممارسات الوحشية التى أثبتت الدراسات الاجتماعية والنفسية أن ضررها على المجتمع البشرى أكثر كثيرا من نفعها، وأنها عمليا وعلى المدى الطويل، لا تؤدى إلى أى ردع وإنما بالعكس قد تسهم فى تسميم أجواء السلم الأهلى وتغذّى، مع معطيات وعوامل أخرى، النزوع الفردى والجماعى نحو العنف وترفع من مستوى الاستعداد لتقبل القسوة والتسامح مع السلوكيات الهمجية.
يبقى أن أربع دول عربية (الجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس) هى الآن ضمن مجموعة الدول التى لم تلغِ عقوبة الإعدام من تشريعاتها، لكنها أوقفت العمل بها فحسب، بينما باقى أقطار أمتنا ما زالت تسكن راسخة فى قائمة دول الأقلية المتمسكة بهذه العقوبة، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية التى لا تكفّ إدارتها عن التبجح وإلقاء المواعظ والدروس اليومية بشأن احترام قواعد ومبادئ حقوق الإنسان.
أما السبب الثانى الذى جعل الضجة والإدانة الدولية لحكم محكمة جنايات المنيا سالف الإشارة إليه أمرا متوقعا بل وعاديا جدا، فهو كامن فى هذا العدد الهائل وغير المسبوق (فى تاريخنا الحديث كله) من المحكومين بتلك العقوبة الرهيبة (بغض النظر عن جسامة وبشاعة التهم المنسوبة إليهم) إذ إن صدور حكم قضائى واحد بإعدام 183 شخصا بعد محاكمة لم تستغرق سوى بضعة أسابيع قليلة وعدد جلسات لا يكاد يكفى لتلاوة كل أسماء المتهمين فى القضية (أكثر من 600) فضلا عن تحقيق دفاعهم جميعا، هو شىء غريب وشاذ، ويدفع إلى شك يلامس حدود اليقين فى غياب وعدم احترام الحدود الدنيا من أصول وشروط ومتطلبات المحاكمات العادلة.
غير أن ما فات لا يعنى أبدا أن التعليقات وردود الأفعال التى هبّت علينا بعد هذا الحكم كانت كلها صحيحة أو بريئة، فالحقيقة الظاهرة أن نسبة كبيرة منها بدت ملتوية وملوّنة بالهوى والغرض السياسى وبعيدة كل البعد عن الدوافع المبدئية، إذ تجاهل أصحابها على نحو فجّ ومفضوح معطيات واضحة وحقائق قوية وساطعة، ربما أهمها وأخطرها أن حكم محكمة جنايات المنيا بالذات (فضلا عن باقى آنف الذكر)، هو بالقطع ليس قابلا للتنفيذ ومصيره الإلغاء حتمًا.. سواء لأنه صدر غيابيا بحق الأغلبية الساحقة من المتهمين، ومن ثم فإن بإمكانهم إعادة إجراءات المحاكمة فى أى وقت، أو لأنه من الناحية القانونية لا بد من رفعه (مثل كل أحكام الإعدام) إلى محكمة النقض حتى لو لم يطعن عليه المتهمون، وهذه المحكمة المرموقة ستلغيه قطعا وفورا لأسباب إجرائية وقانونية واضحة وضوح الشمس.