فى نفس اللحظة تكتشف أن فى المملكة المغربية ثلاث فاعليات سينمائية، فى «كازابلانكا» مهرجان فى دورته السابعة، وفى «خريبكة» مهرجان وصل إلى دورته السابعة عشرة للسينما الإفريقية ويديره الناقد المغربى الكبير ورئيس المركز السينمائى نور الدين صايل الذى سيكرم بمهرجان القاهرة هذه الدورة، وفى نفس الوقت كنا نشارك أنا والصديقان مدير التصوير كمال عبد العزيز رئيس المركز القومى للسينما والمخرج عمر عبد العزيز فى منتدى سينمائى للتعريف ببدايات عدد من المخرجين المصريين الكبار والمحطة الأولى لكل منهم.
من يحطّ قدمه فى المغرب فليس محتاجا إلى أى دليل يؤكد أن هذا الشعب لديه عشق خاص لكل ما هو مصرى، بداية من اللهجة ووصولا إلى الفنانين، والحكاية المتداولة التى أعادها مرة أخرى نور الشريف فى لقاء الفنانين مع السيسى، عندما زار عبد الناصر فى منتصف الخمسينيات المغرب فى ضيافة الملك محمد الخامس، فاقتحم مواطن الموكب وقال موجها حديثه إلى عبد الناصر: «أنت مصرى»، قال له: «نعم»، فأضاف: «عندما تعود إلى مصر سلّم لى على إسماعيل يس». ربما بها قدر من المبالغة أو خيال مُطلق، ولكن المعنى الأعمق هو مكانة الفنان المصرى عند الشعب المغربى. فى ليلة افتتاح المنتدى ارتدى المركز السينمائى المغربى الزى المصرى، الأفيشات وصور النجوم واللقاءات والأحاديث الجانبية كلها تعيدنا إلى الزمن القديم، وهم مثلنا يصفون تلك السنوات بالعصر الذهبى، رغم أنه لا يوجد عصر ذهبى وآخر نحاسى، دائما هناك خليط بين الذهب والنحاس وربما يأتى يوم نتحسر فيه على زمن النحاس.
عُرض فى الافتتاح فيلم صلاح أبو سيف القصير «نمرة 6»، ولم يكن مخرجنا الكبير فى أحاديثه يشير إليه مطلقا ولا أدرى السبب، هل شعر رائد الواقعية أنه لا يجوز أن نبدأ تاريخه الفنى بالحديث عن فيلم كوميدى؟ كنت قريبا من الأستاذ صلاح ولا أتذكر أنه أشار لى أو لغيرى إلى هذا الفيلم رغم أنه مثلا كان لا يجد بأسا من أن يقول إنه فى بداية عشقه للسينما كان يذهب لموقع التصوير ويبدأ فى تنظيف الاستوديو بالتقاط المسامير التى تتناثر على الأرض!!
شاهدت «نمرة 6» قبل نحو 20 عاما فى المهرجان القومى للسينما المصرية، كنا قبلها دائما ما نبدأ تأريخ مشواره بالحديث عن أفلامه التسجيلية فى شركة الغزل والنسيج بالمحلة أو عن فترة سابقة عندما كان يخرج مسرحيات أو فى مرحلة موازية عندما كان يكتب فى الصحافة نقدا فنيا، الآن صار لزاما أن يُصبح «نمرة 6» محطة الانطلاق. فكرة براقة التقطتها أبو سيف بينما السيناريو والحوار لأبو السعود الإبيارى، كان إسماعيل يس فى مطلع الأربعينيات نجم الأدوار الثانية، أبو سيف أول من دفعه إلى البطولة.
المشهد الأول على المقهى من خلال أربعة نصابين، ميت وصديق وسائق سيارة وطبيب، سُمعة هو صديق المتوفى، ويسأل الصديق عن طبيب فيأتى ومعه السماعة التقليدية ويقرر أنه ميت ويبدأ فى تحفيز الناس على التبرع ويدفع من حُر ماله جنيها، وما أدراكم ما الجنيه قبل 72 عاما، ويتصاعد الموقف، مرة يظهر نصاب آخر يكشف اللعبة فيمنحونه جنيها حتى يخرج منها، والثانى عندما يدخل فى المعادلة رجل ثرى يتولى هو كل المصاريف، وهنا تُفضح اللعبة.
لجأ أبو سيف إلى العديد من الحيل السينمائية والدرامية، منها مثلا أن يتوجه إسماعيل يس إلى الكاميرا، عندما ينتقلون إلى مقهى آخر ويكررون الموقف فيقول للجمهور: أنتم تعرفون الباقى، فيختصر زمنا ليحافظ على الإيقاع، ويكسر الإيهام، أو أن يعبر عن تشويه فى الصورة باستخدام العدسات ليتواءم مع فكرة الموت، أو نرى حوارا يشارك فيه المتوفى، وكانت ملاحظة جيدة عندما سألتنى مشاهدة: لماذا لم نرَ امرأة واحدة طوال الأحداث؟ قلت: الوحيد الذى يملك الإجابة هو أبو سيف.
ويبقى العنوان «نمرة 6»، وهو تعبير كان يُطلق على العملة المزيفة، أشار إليه داخل أحداث الفيلم بلمحة سريعة. غدا ذكرى رحيل صلاح أبو سيف، صدفة خير من ألف ميعاد!!