لم يصدقوا أن النبوّة انتهت..
يتخيلون أنهم يستحقون أن يكونوا أنبياء، بل وآلهة.. يقودون العالم ويصنعون كتالوجات حياة للبشر. إنهم مجانين بالنسبة إلى المجتمعات التى ذاقت بشاعة الحكام المرسلين من السماء (أو الذين يعتقدون طبعا أنهم أنبياء الوطن وآلهته المقيمة فى القصر..). لكننا هنا فى مجتمعات تعيش البَيْن بَيْن.. أو تستعير كل حياتها من بلاد استعمرتها.. أو تبحث عن تميز فى تلك البلاد وتسمى هذه «هوية».. تسميها لأنها تتحول إلى أيقونات لا واقع.. مجرد خزعبلات وحياة موازية.. وغيبوبة.. ما زلنا نعيشها.. وسيد قطب أحد أنبياء هذه الغيبوبة التى يعتبرها هو «يوتوبيا الهوية» و«مملكة الله» على الأرض.
ذهب سيد قطب إلى حلوان بحثا عن استشفاء لرئته المعطوبة. هناك زاره نجيب محفوظ الذى تقول الأساطير إن سيد قطب كان مكتشفه.
وهو بالفعل من أوائل النقاد الذىن اهتموا بنجيب محفوظ، وكتب عن رواياته (خصوصا «خان الخليلى»). سيد قطب وقتها كان يريد أن يصبح أديبا أو كاتبا بالمفهوم الحديث.. حاكَى «أيام» طه حسين فى سيرة ذاتية لم تُقرأ إلا بعد أن أصبح صاحبها/ نبىَّ التَّطرُّف.
برومانتيكية طاغية كتب سيد قطب سيرته «طفل فى القرية» وأهداها إلى طه حسين قبل أن يحمله الطغيان الرومانتيكى إلى العقاد.. المعبّر الأقصى عن التطرف النرجسى/ الباحث عن العظمة والعبقرية فى كل ما يعرفه/ ينتمى إليه/ وهذه النقطة تلبى مشاعر سيد قطب الرسولية/ فهو راسم الطريق إلى اليوتوبيا/ حامل الواقع إلى مصاف الجنات الأرضية.
النرجسى الزاعق عاندته علة الجسد/ والإقامة على هوامش المدينة..
كيف تكون معزولا وأنت رسول هذه المدينة؟
من بيته فى ضاحية حلوان أعلن سيد قطب ذات يوم الطريق إلى مملكة الله. أعلنها واضحة: نحن فى مملكة الشيطان/ مجتمع جاهلى/ الإسلام غائب وليس غريبا فقط. إعلانه كان انفجارا على الورق، اختلطت فيه مفاهيم الحداثة/ الدولة والمجتمع/ بمفاهيم «الحاكمية.. لله»، الإخوان فى تلك اللحظة كانوا نُتَف جماعة ما زالت تدور حول أفكار حسن البنا البسيطة/ وها هو الرومانتيكى ينفجر على الواقع بمهمة الخلاص الكبير. لم يكن الأدب يتسع لهذه الانفجارات/ ولا للنرجسية الرسولية/ ولا لانفعالات تعيد العالم بحرب من «الصحابة الجدد»/ النخبة المؤمنة/ الذين يتجمعون فى عصبة يتسربون بها فى المجتمع الجاهلى/ الكافر، حتى لحظة تكوين القاعدة/ التمكين بمعنى ما/ لتعلن مملكة الله/ أو الدولة التى يكون فيها الحكم لله.
هذه النُّتَف العاطفية/ الانفعالية/ بنصوصها الحادة/ صنعت «معالم على الطريق» الذى أوصل الإخوان فى ١٩٦٥ إلى «الجهاز السرى» الذى سيستولى على السلطة بقوة السلاح.
لم يصدق سيد قطب أن رومانتيكياته على الورق ستتحول إلى خطة/ وسلاح/ ومقاتلين سيصطادهم النظام بعد أن كانوا صيدا لرسولية النبى الذى صدّر الفكرة المدمرة بأن «الأفكار تغذّيها الدماء».
بدا ضحية مثالية سيد قطب وهو فى طريقه إلى منصة الإعدام، ملامح متعبة/ لكنها متماسكة/ ليست ذاهلة/ يعرف طريقه.. فهو الذى كان قبل سنوات من إعدامه مبارِكًا لإعدام خميس والبقرى، بطلى أول صدام للضباط الأحرار مع العمال فى كفر الدوار بعد أسابيع قليلة من إزاحة الملك.
سيد قطب كان مستشار مجلس قيادة الثورة العمالى/ الثقافى/ وتقول الأساطير إنه صانع الرؤى الاجتماعية للضباط (بكتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»)/ تقول أسطورة إخوانية أخرى إن قطب كان سيحتل موقع هيكل من عبد الناصر/ ورغم أنه كان مقيما فى مكتب بمقر القيادة فإنه لم يقتنص الفرصة/ لأنه كما تقول الأسطورة أيضا كان يعتبر أن موقعه الرسولى المفضل إما فى وزارة التعليم (المعارف وقتها) وإما فى الإذاعة.
كاد سيد قطب يصبح «الكونت ميرابو» للضباط/ حسب عاشقى إقامة التماثل بين يوليو ١٩٥٢ والثورة الفرنسية، ولم يكمل قطب الدور الذى لعبه أونوريه جابرييل ريكوبتى، الكاتب والصحفى والخطيب النَّزِق/ العليل الذى لعب دورا فى انتقال فرنسا إلى الجمهورية/ رغم أنه كان مؤمنا بالملكية الدستورية. لكن سيد قطب لم يكن الكونت.. بل كان بكل طاقته الرومانتيكية أحد دعاة الدموية الذى تحول إلى أشهر ضحايا فكرته؟ فالرجل الذى حرَّض على إعدام اثنين من منطقة أفكار أو مواقف مختلفة (مثل خميس والبقرى) أُعدم بعدها بسنوات وبنفس التوصيفات: خطر على الوطن.
وما زال فى الحكاية ما يمكن حكايته.