كنا على موعد فى النادى قبل سفرها، صديقة عزيزة وصحفية شابة مجتهدة، عرفتها على مدى سنوات، الصحافة بالنسبة لها لم تكن مجرد مهنة ولكن شغف، تركت من أجله عملها السابق كمترجمة ودخلت بلاط صاحبة الجلالة من أول السطر، شعلة نشاط وحماس، صاحبة فكر ووجهة نظر كانت تعبر عنه فى مقال أسبوعى،مؤخرا تزوجت وأنجبت وستسافر لزوجها بعد أيام .
كنت واحدة من ضمن صديقات دعتهن للقاء قبل سفرها، أثناء الحديث سألتها زميلة دراسة هل ستبحث عن جريدة لتعمل بها فى البلد العربى الذى ستذهب إليه؟ كانت إجابتها مفاجأة : لم أعد أرغب فى العمل فى الصحافة وأضافت : "ضحكوا علينا عندما أقنعونا أننا سنغير البلد بعملنا، العالم دلوقتى بيتغير بالقوة والمال وليس بالكلمات" زهدت فى المهنة التى أكلت عمرها على حد قولها دون جدوى وتفكر فى مشروع حضانة .
كانت تحمل صغيرها، نظرت إليه... ابتسم ببراءة، لم يكن لدى رغبة فى الرد أو الدفاع عن المهنة، ولكننى نصحتها بالتريث وقلت لها : استمتعى بالأمومة، ولا تفكرى فى المستقبل، عيشى اللحظة حتى لا تفقديها بالتفكير فى الغد، حين يأتى سيكون معه قناعات جديدة .
قضيت معها وقتا ممتعا وتركتها مع صديقاتها وعدت سيرا على الأقدام لمنزلى، كانت فرصة للتفكير والتأمل، فكرت فى عشرات وربما مئات اتخذوا من الصحافة مهنة بالصدفة....
"أَنا مثلكمْ
سُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْمصادفَةً،
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ"
الصدفة جعلت من البعض صحفيين، ولكن آخرين وهم كثر، كانت الكتابة هى حلمهم والصحافة هى الطريق لتحقيقه... الحقيقيون من هؤلاء وأولئك وجدوا أنفسهم فى مأزق،، قضوا سنوات عمرهم يكتبون على الماء، كتاباتهم تلقى فى المحيط كحصوات صغيرة ترقد باستسلام فى القاع،المطبعة تلتهم أجزاء صغيرة من أرواحهم كل يوم وتلقيها على الأرصفة، ما يكتبوه عمره ساعات يموت مع صياح الديك أو قبل ذلك، القلم فى حرب مع الصورة، يحاول أن يسبقها ولكنه سباق الأرنب والسلحفاة، الأرنب لم يعد كسولا كما كان فلقد تعلم بالخبرة، والقلم رضى بأن يكون الرفيق المطيع .... وأكتفى بالتعليق .
"مَنْ أنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ"
أصحاب الأقلام أصبحوا شهودا، مجرد شهود يحضرون حين يطلب منهم الشهادة، ويغيبون عند اتخاذ القرار والنطق بالحكم، القاضى لا يكترث بأقوال الشهود ولكن بتحريات المباحث ومحاضر النيابة، مازال البلد يدار من القصر، والدولة لاتوافق على مصاهرة الشارع والعامة، مازال "زيتهم فى دقيقهم" والآخرون أغيار.
"ومشى الخوفُ بي ومشيت به
حافياً، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عمّا أُريدُ"
كثيرون سقطوا ضحية اليأس، وسقطت منهم الراية فى الطريق، كثيرون لم يعدوا يؤمنون بأنهم جنود فى جيش التحرير.. جيش التغيير، كثيرون شعروا بأنهم مجرد أنفار فى صالة التحرير، يذهبون إلى حيث يريد رئيس التحرير ويرجعون شهداء على واقع يغيره بالصياغة كما يريد ... السلطان هو السلطان والملك هو الملك .
"لا دور لي في حياتي
سوى أَنني،
عندما عَلّمتني تراتيلها،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها ثم حاولتُ تعديلها..."
شعرت وأنا أسير متمهلة إلى منزلى أن القليل الذى قالته صديقتى الصحفية الشابة فيه الكثير من الحقيقة، من وقت لآخر يصيب الكتاب العجز، و نشعر أننا لم نعد رسلا وتوقف الوحى عنا، ذهب إلى آخرين بيدهم الصولجان، بيدهم أن يجعلوا الرسالة مسموعة بقوة السلطان، من يريد رسولا يخذله، من يريد نبيا يصلب كل يوم على باب المدينة ولا يجد من يجرؤ على أن يوارى جسده التراب، فما حدث لأنتيجون يتكرر كل يوم من كريون، هناك ألف "كريون" وأنتيجون واحدة ماتت من زمن.
"خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال: متى؟
بل: لماذا؟ وكيف؟ وَمَنْ؟"
كلما ازددت علما زاد شعورك بالوحدة والغربة، تعرف أن كثيرا مما يقال ليس صدقا، وكثير مما يكتب زيفا، تدرك أن تلك الوجوه لا تشبهك رغم أنك تلعب لصالح نفس الفريق، ممنوع عليك أن تصيب الهدف، لانك محروم من النزول إلى أرض ملعب، محروم من لمس الساحرة المستديرة، يحتفظون بك على مقعد الاحتياطى... سنوات الانتظار تحولك لمتفرج... ترى الأخطاء وتراقب اللاعبين ومع الوقت تفقد الرغبة فى المشاركة ولو بالحديث.
"نرْسيسُ ليس جميلاً
كما ظنّ . لكنّ صُنَّاعَهُ ورَّطوهُ بمرآته.
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً..."
نظل نكتب لأن الأمل هو نقطة الضعف الإنسانية، هو سبب انكسار ابن آدم وانتصاره، لولاه ماظل المهزومون يوما على قيد الحياة وما تحول المنتصر إلى راغب فى الخلود..... الأمل هو السراب فى الصحراء الذى يحمى الضالين من الموت غرقا فى بحر الرمال ويساعدهم على مواصلة البحث عن شط النجاة ...
"والسرابُ كتابُ المسافر في البِيد...
لولاه، لولا السراب، لما واصل السيرَ
والسراب يناديه
يُغْويه، يخدعه، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة. يقرأ : ماء، وماء، وماء .
ويكتب سطراً على الرمل: لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن
من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس، أو شعرُهُ المرتجَل"
كثيرا ما أصابنى اليأس كما أصاب صديقتى، وفكرت مثلها فى هجر الكتابة، والبحث عن مهنة أستطيع أن أعيشها بلا توتر أو قلق، بلا يأس أو رجاء، فلقد أجهدنى حمل الكلمة... ولكن يأتى تعليق قارئ أو كلمات صديق لتجعلنى أثق فى أن الكلمة ليست مجرد صرخة فى الفضاء، ولكنها بذرة تزرع ويوما ما ستترك تراب الأرض لتعلو وتعلو وتصل لعنان السماء.... حلم ربما... ولكن هل نستطيع الحياة بدون أحلام ؟
"ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل:
إن كان لا بُدَّ من حُلُم، فليكُنْ
مثلنا... وبسيطاً
لا أَقول: الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌوخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول: الحياة، هنا، ممكنةْ"
سأعيش لأكتب، لن تكون كلماتى نقش على الماء ولا رسما على رمل، ولكن بذور أمل ستزهر يوما على أرض بلادى، شكرا لمحمود درويش الذى رافقتنى أشعاره فى مقالى وكلها من قصيدته الرائعة "لاعب النرد".
ektebly@hotmail.com