ما الذى يجمع بين ظواهر مروعة وشائنة تنهش الآن بقسوة فى جسد وروح مجتمعاتنا ودولنا العربية، من نوع عصابات «داعش» و«واغش» ، فضلاً عن العصابة الأم «إخوان الشياطين»، بظواهر عار وشنار أخريات مثل «التحرش» وسائر تجليات الانحطاط العام والبؤس الشامل سياسة واقتصادا واجتماعا.. أسأل: هل هناك شىء يجمع بين كل هذه البلاوى السوداء؟!
الإجابة: نعم، فهى أولا: تجتمع وتتزاحم فى رأسى وتسوِّد شكل الدنيا فى عينىّ، بينما أنا محتشد لكتابة هذه السطور، وأما ثانيا: فإن هذه المصائب كلها ومن دون استثناء واحد، ولدت وخرجت من أحشاء أسباب وبيئات مسمومة، أغلبها من صنع أيادينا نحن، غير أن بعضها موروث من أزمان وعصور مضت، أقربها عندما انتهكت قوى الاستعمار القديم (والجديد أيضا) براءة مجتمعاتنا وفعلت فعلها المدمر (كما فعلت مع غيرنا من الأمم والشعوب) فى أبنيتها وعطلت بقسوة مسار تطورنا الطبيعى وقطعت بغشم إجرامى الطريق أمام سياق التفاعلات، التى كانت كفيلة بتهيئة فرص التقدم الذاتى وذرعت بذور شرور مجتمعية خطرة نمت وترعرعت بعد ذلك تحت ظل إخفاقنا وفشلنا وغفلتنا الطويلة.
إذن، حتى الأسباب القديمة التى اقتحمت ديارنا من خارج الحدود أصبحت بتراكم العهود ومرور الزمن ضمن حدود مسؤوليتنا ولم نعد نستطيع التملص منها وإزاحتها على الآخرين.. فعماذا بالضبط نحن مسؤولون؟ وكيف صنعنا بأنفسنا تلك البيئة الرهيبة التى نعيش فيها حاليا، والتى أنتجت بدورها ذلك التشوه المخيف فى ملامح حياتنا ومعالم صورتنا بين سائر البشر والأمم؟
مثلا، لقد مددنا حبال الصبر طويلا جدا لنظم حكم قمعية فاسدة وعاجزة، جلُّ همها أن تبقى فى مقاعد السلطة بينما هى لا تفعل أى شىء سوى حراسة أسباب التخلف والتأخر وإبقائها (ما دامت آثارها بعيدة عن تهديد كراسى الحكم) تنمو وتستفحل وتستشرى فى أبنية المجتمع والدولة.. وكانت النتيجة أن أغلب مجتمعاتنا فشلت فى بناء مؤسسات دولة حديثة وعصرية تستطيع أن تقود الجماعة الوطنية برشد وكفاءة نحو النهوض والتقدم وأن تمتن وتقوى وحدة عناصر تنوعها، بحيث لا يصير هذا التنوع سببًا لصدام وشجار قد ينفجر فى أى لحظة (على النحو الذى نشهده الآن فى العراق وسوريا وليبيا والسودان).
كما تواكب مع الإخفاق السابق، فشل ذريع ومدوٍّ فى اختبار اللحاق بركب الحضارة الإنسانية بمفهومها الشامل، أى بناء اقتصادات متطورة تلبى الحدود الدنيا من متطلبات الحياة لجموع الناس وتسمح ببناء قوة ذاتية معقولة.. يضاف إلى ذلك تجريف مريع للثروة الوطنية ونزح قلة قليلة العدد من السكان لأغلب عوائد النشاط الاقتصادى مما أدى بدوره إلى إلقاء الأغلبية الساحقة من المواطنين فى مستنقع البؤس والعدم والحرمان من أبسط وأهون شروط الحياة الإنسانية.
ولكى تكتمل هذه الخلطة الجهنمية، فإن ما جرى على صعيد الثقافة والتعليم أضاف إلى لوحة البؤس العمومى مزيدًا من عوامل التدمير والخراب الذى طال العقل والروح ومنظومة القيم والأخلاق، وظهرت أعراض بلغت من الشذوذ والغرابة حدودًا غير معقولة ولا تكاد تعرفها أغلب مجتمعات الدنيا، ربما أوضحها وأشدها خطرًا ظاهرة الرطان والثرثرة الهائلة فى أمور الدين الحنيف وابتذاله وسحق قيمه العليا وتحويله، إما إلى سلعة رائجة فى سوق التجارة الحرام وتحميله بمفاهيم وأفكار مسرفة فى التخلف والرجعية وإقرانه بجهامة وقسوة، والتى لامست كثيرًا حدود الوحشية.. وإما إلى سجن هذا الدين بين جدران «الشكليات والطقوس» الفارغة من أى مضمون، بحيث بدت مقطوعة الصلة تماما بالسلوك والتصرفات، إذ لم تعد تهذبها وترتقى بها وإنما استعملت أحيانًا كرخصة تسوغ ارتكابات وأفعال جلفة وخشنة، فضلاً عن تسويغ وتبرير فواحش وجرائم تقشعر من هولها الأبدان..
ولا حول ولا قوة إلا بالله.