هناك خوف كامن فى الصدور من تقليص مساحة الحريات فى عصر السيسى، بقدر ما أن هناك إحساسًا يعلو إيقاعه بأن الرئيس يريد من الجميع المسارعة فى إعلان الولاء.
وهكذا شاهدنا مهرجان الإسماعيلية يعلن ويكرر المبايعة فى الافتتاح والختام ومهرجان رأس البر -فوجئت بأن هناك مهرجانا اسمه رأس البر- يعلن عن نفسه من خلال تأييده للسيسى، ثم أعلنها مهرجان القاهرة السينمائى واضحة وصريحة ومجلجلة وأصدر بيانًا يعاهد فيه الرئيس على مواصلة العمل، ويشير إلى أنه أهم حدث ثقافى يعقد بعد تولى السيسى الحكم وسوف يثبت فى عهد السيسى أن مصر بلد الأمان، أليس من حق مهرجان الإسكندرية السينمائى أن يعلن أنه الأولى بذلك، خصوصًا أنه فى وقت تقاعس فيه مهرجان القاهرة عن عقد دورته فى العام الماضى بحجة الخوف الأمنى وهو ما أسهم فى تأكيد صورة سيئة عن الأمن فى مصر، بينما «الإسكندرية» عُقد فى موعده، أتصور أن فى مثل هذه المواقف من الممكن أن تنتقل العدوى بين كل التجمعات الثقافية وغير الثقافية، الكل سيحرص على إبرام التعهد مع السلطة السياسية، المفروض أن المهرجانات تعقد فى موعدها والعهد ليس مع الرئيس ولكن مع الشعب، المهرجانات تُقام أساسًا للناس وليس لسيادة الرئيس.
الوسط الفنى والثقافى فى مصر أراه الآن مهيئًا لإعلان مزيد من الولاء. الكل لديه انطباع مسبق أننا نعيش زمن القبضة الواحدة والرجل الواحد وأن عليك أن تضمن أن من تعمل من أجله قد وصلت إليه الرسالة، أشعر أن هناك مَن سيخشى لو أنه لم يسارع إلى الإعلان سوف تحسب ضده كأنه فى الحد الأدنى محايد تجاه السلطة الجديدة والمطلوب هو التماهى الكامل، ولا أستبعد لو استمر الموقف على ما هو عليه، أن ترسل مثلا كل الجرائد والقنوات الفضائية، رسمية وغير رسمية، خطابات مماثلة تعلن فيها التأييد، وهل ستصمت فى هذه الحالة النقابات؟ فلو أرسلت نقابة السينمائيين خطاب تأييد، ما الذى تتوقعه من «الممثلين» و«الموسيقيين»؟، ولن تكتفى نقابة الأطباء بالفرجة. خطورة ما أقدم عليه مهرجان القاهرة، مهما كانت دوافعه حسنة النية، أنه يكرِّس لمبدأ الرهان على الرئيس فى قصر الاتحادية. لقد تصورنا أننا نجحنا بعد ثورتين فى القفز فوق هذا الحاجز، ورغم أن بيان مهرجان القاهرة أشار إلى الإجماع، فإننى أتصور أن هناك مَن تحفَّظ لإحساسه أن هذا ليس دور المهرجان.. أتصور وربما أكون مخطئا.
أفهم أن أغلب النجوم فى كل العهود يسارعون إلى إعلان الولاء، ولكن المثقف عليه أن يحرص على مسافة ما مع السلطة، والذى يعنى أن هناك مساحة ممكنة من الاختلاف، ولكن عندما يصل الأمر إلى تلك الحالة من التماهى أشعر بقدر من التوجس على ملف الحريات.
أعلن الرئيس فى البيان الأول أنه مع الحرية ولن يصادر الإبداع، وأضاف «بما يتوافق مع ثوابت المجتمع»، وفى تلك المساحة المطاطة من الممكن أن نرى الكثير من التنازلات خصوصًا مع مثقفين تعودنا منهم أن يقرؤوا ما الذى تعلنه الدولة وما الذى ترمى إليه، وهم متخصصون فى قراءة ما بين السطور. الرقابة الاجتماعية سوف تنشط خلال الأيام القادمة بأيدى رجال تختارهم الدولة ع الفرازة، السؤال: على أى أساس تختارهم؟ الأمر لا يحتاج فى الحقيقة إلا إلى نمطين وهما متوفران بكثرة، الأول بطبعه يميل إلى التحفظ فهو سينحاز إلى قناعاته الفكرية، والثانى قناعاته «أوول سايز» مستعد أن يذهب إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، فما دامت الدولة تريد ذلك فهو لها.
فى الأيام القادمة سنغنّى كثيرًا للحرية، ستقرؤها فى مقالات وتسمعها فى أغانٍ وستجد بجوارها تطل أمامك دائما ثوابت المجتمع، وأى انتقاد سيُعتبر فى هذه الحالة أنه يهز ركنًا من هذه الثوابت، وبعد أن تتم المصادرة ستجد عشرات من برقيات التأييد والمبايعة والولاء للسيد الرئيس.