أول من غنى لثورة 23 يوليو كان محمد قنديل «ع الدوّار ع الدوّار» ورغم ذلك لم يصبح هو مطرب الثورة، هذا اللقب يقترن فقط بعبد الحليم حافظ، وهو أول من غنى للوحدة مع سوريا عام 58 «وحدة ما يغلبها غلاب»، بينما الناس تتذكر صباح «م الموسكى لسوق الحامدية»!!
مرت ذكراه العاشرة قبل يومين، وفى ظل الصخب السياسى الذى نعيشه فلم يتذكره أحد، إنه أقوى صوت عرفته مصر فى القرن العشرين بشهادة العديد من أساتذة علوم الصوت، كما أن أم كلثوم منحته «الأيزو» الأكمل والأجمل بين كل المطربين.
لم يحقق قنديل مكانة تستحقها إمكانياته، النجاح يحتاج دائما إلى الموهبة وأشياء أخرى، وقنديل افتقد الأشياء الأخرى.
قال لى الموسيقار الكبير محمود الشريف إنه لم يبكِ فى حياته وهو يستمع إلى مطرب يردد ألحانه سوى مرة واحدة عندما جاء قنديل إلى بيته وفى أثناء البروفة كان يغنى له ع العود لحنه الآسر «تلات سلامات»، وتحديدًا فى هذا المقطع: «عيونك سود وأقول مش سود عشان الناس تتوه عنك» فلم يتوقف عن البكاء.
التقيت المطرب الكبير مرة واحدة فى اليوبيل الفضى للتليفزيون عام 1985، أتذكر المكان، حديقة الأندلس، قلت له فى الكواليس أريد أن أستمع إلى «أبو سمرة السكرة» و«يا حلو صبَّح يا حلو طُلّ» و«يا ميت لطافة يا تمر حنة» و«إن شا الله ما اعدمك» و«رمش الغزال يانا». تعجَّب وأنا أسرد له أسماء أغانيه، ولم يكن يعلم أنى أحفظها، ومن حسن حظه أننى لم أجرؤ على غنائها بصوتى.
قبل هذا التاريخ بسنوات كنت أكتب تحقيقًا صحفيًّا فى «روزاليوسف» أتناول الأصوات التى لم تغنِّ من ألحان محمد عبد الوهاب مثل قنديل ونجاح سلام ومحرم فؤاد وسعاد محمد، كلهم ذكروا وقائع محددة وتحدثوا عن الأسباب. الوحيد الذى تحفظ هو قنديل، قال لى باقتضاب: «اسأل عبد الوهاب».
عبد الوهاب كان مُقِلاًّ فى التلحين لأصوات الرجال باستثناء عبد الحليم الذى جمعه به أيضًا مصالح مادية من خلال شركة «صوت الفن»، قدم عبد الوهاب عددًا محدودًا من الألحان لعبد المطلب وعبد الغنى السيد ووديع الصافى وسعد عبد الوهاب وشكوكو وإسماعيل يس، عندما سألوه أين قنديل أجابهم أنه مطرب كبير ولكنه لا يهتم بتفاصيل اللحن قدر اهتمامه باستعراض إمكانياته، كان هذا هو السبب المعلن، ولو كان صحيحًا فلماذا غنى قنديل أروع ألحان كمال الطويل وأحمد صدقى ومحمود الشريف ومحمد الموجى وسيد مكاوى وعبد العظيم عبد الحق وعبد العظيم محمد ورؤوف ذهنى وغيرهم؟ كان لقنديل قدرة على التلون الغنائى بين كل هذه الأطياف اللحنية.
روى لى كمال الطويل أنه فى عز نجومية قنديل وفى بداية مشواره أراد أن يلحن له «يا رايحين الغورية» و«بين شطّين ومَيّه» وفوجئ برئيس لجنة النصوص فى الإذاعة الشاعر صالح جودت يعترض متعللاً بأن كمال صغير، وصارت الأغنيتان من أشهر أغانى قنديل. ومن المفارقات أن عبد الحليم حافظ شعر بالغيرة، وكانت لديه قناعة بأنه الأولى بكل ألحان صديقه كمال، وغنى «الغورية». كان عبد الحليم حريصًا طوال حياته على منع تداولها، ولكن فى السنوات الأخيرة بات من الممكن أن تستمع لـ«الغورية» بصوت عبد الحليم فتسكن مشاعرك بصوت قنديل.
من يعرفونه قالوا إنه كان يحن دائمًا إلى عالم الطفولة وكثيرًا ما كان يشترى لعب أطفال، أتصوره يعيش حالة من النقاء فى المشاعر نضحت على صوته.
لو كان النجاح فقط بالورقة والقلم لقفز قنديل منفردًا للقمة، ولكن دائمًا فى المعادلة أشياء أخرى، إنها فن تسويق الموهبة، وهى التى تمكن الفنان من خلق دائرة جماهيرية واسعة، وهذا هو تحديدًا ما افتقده قنديل، وله منى «تلات سلامات»، بإيدى سلام، وعينى سلام، وقلبى سلام!!