عزيزى القارئ.. اسمحلى أخلف الوعد الذى وعدته أمس لحضرتك، وأستأذنك إرجاء تنفيذه لوقت لاحق.. أما اليوم فإننى بلا مقدمات أسألك: هل قرأت مسرحية «المفتش العام» التى أبدعها أبو المسرح والرواية الروسية الحديثة نيقولاى جوجول «1809- 1852»، وسخر فيها سخرية مرة من الديكتاتورية والتسيب والفساد الإدارى الذى كان متفشيا فى عصره، وتحديدا فى ظل حكم القيصر نيقولا الأول؟ إذا كنت لم تقرأ هذه المسرحية الرائعة أو حتى لم تسمع بها أصلا، فنصيحتى أن لا تبحث عنها ولا تضيع وقتك الثمين فى قراءتها.. لماذا؟!
لسببين، أولها أن هذه المسرحية اقتبست فكرتها بتصرف أو حرفيا فى أعمال درامية مصرية وعربية كثيرة، أشهرها فيلم بالاسم نفسه «المفتش العام» أنتج وعرض فى عام 1956، ولعب بطولته إسماعيل ياسين وتحية كاريوكا وعبد الوارث عسر.
والسبب الثانى أننى من فرط الكرم سأترك حالا ما تبقى من هذه السطور لملخص نص المسرحية الأصلى.. ثم بعد أن تقرأها، أرجوك انظر حولك قليلا.
تدور أحداث المسرحية فى بلدة ريفية نائية، يعيش أهلها نموذجا مصغرا من الحياة الملوثة بالفساد الضارب بأطنابه فى أجهزة الدولة وأحشاء مجتمع البلد كله. وفى أحد الأيام يصل إلى مسامع العمدة خبر مؤكد بأن ثمة مفتشا عاما من الحكومة المركزية سيأتى قريبا، لكنه سيكون متنكرا حتى يتمكن من رؤية الأوضاع على حقيقتها، وفورا يبدأ طاقم الإدارة الفاسد فى الاستعداد لهذه المصيبة بإخفاء الملفات والوثائق واصطناع أخرى جديدة مضبوطة على مقاس اللوائح والقوانين، التى أهملت ونسيت تماما، كما يشرعون فى تسوية كل الأوضاع المختلة بما فيها العلاقات الاجتماعية التى طالها الفساد والإفساد أيضا.
وبينما حركة التزويق والخداع دائرة على قدم وساق، يهبط على البلدة بشكل مفاجئ شاب مجهول «هو أصلا موظف منحرف وهارب من فضائح لا أول لها ولا آخر»، وبسبب أناقة هذا الشاب ومنظره الفخم يظنه الجميع المفتش المنتظر، بل ويفسرون مظاهر اضطرابه وتردده على أنها نوع من الإمعان فى التنكر.. لكن على مين؟ هكذا يقول لسان حال رجال الإدارة وأعيان البلدة الذين يتقاطرون على الشاب الغريب ويغرقونه بالتودد والنفاق وكل أنواع الرشوة التى لا تبدأ بالمال ولا تنتهى بالنساء، لعل وعسى يرضى ويرفع للمسؤولين الكبار تقريرا مزيفا عن أوضاع البلد.
يدرك الشاب بسرعة سوء التفاهم الذى وقع فيه المغفلون سكان هذه البلدة العجيبة، ويعتبر الأمر فرصة ذهبية للفوز بمكاسب وامتيازات ما كانت تخطر له على بال أبدا. ويبدأ مشوار النصب بقبول دعوة العمدة بالإقامة فى بيت الرجل بدلا من الفندق البائس، الذى أمضى فيه ليلته الأولى، وفى هذا البيت يصول الشاب المتلاف ويجول براحته متحصنا بأجواء الاحترام والتبجيل التى تحيطه ولا تفارقه فى كل ثانية، فنجده وقد أطلق لمجونه وغرائزه العنان، حتى إنه لا يتعفف عن مغازلة زوجة العمدة اللعوب، وفى الوقت نفسه يعمل بنشاط وينجح فعلا فى الإيقاع بقلب ابنتها بل ويعشمها بالزواج.. غير أن أكثر ما يثير دهشته واستغرابه فى كل مهرجان النفاق الذى اشتعل من حوله، أن الهدايا والرشاوى المبذولة له لم تكن تأتيه فقط من الموظفين وعمال الإدارة الفاسدين، بل أيضا من المواطنين العاديين، خصوصا التجار والأعيان الذين كانوا يذهبون إليه مشتكين ومتظلمين من تصرفات وممارسات المسؤولين المحليين!!
وإذ تمضى الأيام ويجد الشاب أنه حصد ثروة لا بأس بها، ويشعر بأنه لا بد أن يكتفى بهذا القدر ويضع نهاية سريعة للحكاية لئلا ينكشف أمره ويخسر كل شىء، يقرر أن يغادر البلدة قبل يوم واحد من حفل خطبته لابنة العمدة، متعللا ببعض الأمور العاجلة، وفى اليوم التالى وبينما كبراء البلدة كلهم محتشدون فى قاعة العرس فى انتظار وصول العريس المزعوم، يفجر موظف البريد قنبلة هائلة فى وجوههم عندما يقرأ عليهم نص رسالة فضها خلسة، ووجد أن كاتبها هو نفسه المفتش المزور، وكان يحكى فيها لأحد أصدقائه بالتفصيل الممل كيف انخدع فيه أهل البلدة المغفلون، وما فعلوه معه وما فعله هو معهم.. عندئذ تخيم الصدمة والذهول على الحضور جميعا، غير أنهم سرعان ما يتبادلون اللوم والشتائم، وبينما هم على هذه الحال يدخل عليهم جندى يعلن بصوت عالٍ خبر وصول سعادة المفتش العام.. المفتش الحقيقى!!
هنا تنتهى المسرحية ويهبط الستار على مشهد تتجمد فيه كل الشخصيات جمودا تاما.