من شاعر المرحلة؟ قد يبدو سؤالا خارج المقرر ولكن صدقونى هو فى صميم المقرر.
هل يختلف الأمر قبل وبعد التنصيب، مثلما يتم التأريخ قبل وبعد الميلاد، الإحساس العام أن الدولة كان يحكمها المشير، الكل كان يراعى أو ربما يفكر إذا لم يسأل مباشرة، القرارات الجمهورية التى أصدرها مؤخرا المستشار عدلى منصور، هذه الحزمة لا يمكن أن تتصور أنها مجرد قوانين أصدرها الرئيس المؤقت قبل أن يغادر الموقع بساعات، بقدر ما هى تعبر بالضبط عما يريده الرئيس القادم، حتى لا يبدأ الطريق بإصدار قرارات جمهورية ستصبح لا محالة محل تساؤل، ولكن المستشار أزاح الحرج عن الرئيس، الآن من حقك أن تحاسب الرئيس عن القرار الذى يصدره ولا تقع تحت إحساس التخمينات.
كلنا لنا مقياس فى الرؤية، لو حاولنا أن نقرأ من زاوية الأغنية كيف نرى الصورة؟
سوف أروى لكم واقعة ذكرها لى الإذاعى الكبير أحمد سعيد قبل أيام قليلة عندما حلت هزيمة 5 يونيو، وأعلن جمال عبد الناصر التنحى، اجتمعت كل القيادات فى «ماسبيرو»، وقالوا ما الذى نقدمه للناس، أجمع الحضور على أن القرآن الكريم هو السلوى فى هذه اللحظة وليس غير القرآن، وقرروا أن تنضم كل الموجات إذاعية وتليفزيونية، وتقدم طوال ساعات الإرسال آيات من الذكر الحكيم، فوجئ الجميع بمن فيهم أحمد سعيد، بأن الإذاعية الراحلة نادية توفيق -أصغر المشاركين فى الاجتماع سنا- تخرج عن الإجماع وتقول لهم سوف يشعر الناس أننا فى مأتم وأننا انتهينا، وأشارت إلى رائعة محمد فوزى «بلدى أحببتك يا بلدى»، التى كتبها مرسى جميل عزيز. كان فوزى قد رحل قبلها بعام، ولكن الإذاعية القديرة استشعرت أن تلك اللحظة تستحق أن تخرج من الأرشيف «بلدى أحببتك يا بلدى حبا لله وللأبد، فثراك الحر تراب أبى وسماك يزف صبا ولدى»، ومنذ ذلك الحين عندما يحل بمصر مصاب وطنى يصعد على أثير الإذاعة صوت فوزى، وسوف تكتشف أن الأغنية لا تزيد عن دقيقتين، ولكن المقطع الواحد تتم إعادته ثلاث وأربع مرات، لكى تستمر ست دقائق، حب البلد هو الوصفة السحرية لهزيمة الهزيمة.
أتابع منذ ثورة 30 يونيو حالة اللهاث الغنائى. البعض يحاول أن يضع مصطفى كامل فى مرتبة مؤرخ الثورة الغنائى. كان كمال الطويل يقول لى إن صلاح جاهين هو جبرتى ثورة 23 يوليو. الحقيقة أن كمال وصلاح وعبد الحليم يستحق الثلاثة مجتمعون هذا اللقب، مصطفى كامل «حجم عائلى» 3×1، أى أنه يؤدى دور الثلاثة معا، وقدم نفسه باعتباره الفنان الشامل وصوت ثورة 30 يونيو مؤلفا وملحنا ومطربا، وصارت «تسلم الأيادى» هى العنوان ومن يعترض أو يذكر ولو على استحياء أن اللحن والكلمات مسروقان، مجرد أن تشير إلى ذلك ستصبح فى الضمير الجمعى مفرق الجماعات وهادم الملذات، هذا لو نجوت من اتهامك بالطابور الخامس.
أرى فى الأفق الآن أن هناك اتجاها لإزاحة مصطفى كامل عن واجهة الصورة. أيمن بهجت قمر و«بشرة خير» أخذا المكانة، وانزوى مصطفى مع أغنيته الركيكة «الله يقويك يا ابنى/ على من يعاديك يا ابنى». قمر أكثر شاعرية وعصرية ويمتلك خفة ظل يبثها فى ثنايا كلماته. جمال بخيت أيضا له مكانة فى النظام الحالى، ولكن جمال يكتب بعقله أكثر من قلبه، ونحن نعيش زمن المشاعر، ولهذا ستجده حاضرا أكثر فى الأوبريتات والمحافل الرسمية.
هل ستملك الدولة اختيار شاعرها؟ فى زمن عبد الناصر كان صلاح جاهين شاعر الثورة وشاعر الناس. فى زمن السيسى هل سنعثر على شاعر الناس والسلطة، أم سنجد شاعرا للسلطة وشاعرا للناس؟