لا يمكن بأى حال من الأحوال وضع خارطة طريق لموضوع ما إلا بعد إجراء تقييم شامل له، من خلال دراسات شاملة متعمقة، ولذلك يجب قبل الولوج فى غمار تجارب العدالة الانتقالية إجراء تقييم مبدئى لمسار العدالة الانتقالية فى مصر عقب ثورة يناير حتى وقتنا هذا، من خلال استعراض التحديات التى واجهها، ومازال يواجهها، تطبيق هذا المفهوم. ولعل من أهم تحديات المرحلة الانتقالية فى مصر هو عدم تمكن الأنظمة المتعاقبة- بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير- من التصدى لانتهاكات الماضى.
ولقد أكدنا غير مرة عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير أن منظومة العدالة الجنائية فى مصر بحالتها الراهنة لن تتمكن من التصدى لصور الفساد الكبرى، والجرائم الجماعية الجسيمة والممنهجة التى ارتكبت ضد أبناء الشعب المصرى قبل وأثناء وعقب الثورة، والمستمرة حتى الآن، وطالبنا بضرورة الاسترشاد بتجارب الدول السابقة فى مجال العدالة الانتقالية، وإجراء التعديلات اللازمة للقوانين الجنائية حتى يتمكن القضاة من إقامة مسؤولية من أجرموا فى حق الوطن والمواطنين عن تلك الجرائم، وتحقيق القصاص العادل للضحايا وتعويضهم وذويهم عما أصابهم من أضرار مادية ومعنوية، وفقاً لأعلى المعايير الدولية. إلا أن إصلاحاً لم يحدث، وتعديلاً لم يتم، مما أصاب الشعب المصرى بإحباط شديد، وأدى إلى استمرار سلسلة انتهاكات حقوق الإنسان فى الأنظمة المتعاقبة، التى زادت حدتها فى عهد نظام الإخوان، الذى سخر الدين من أجل تحقيق مصالحه السياسية، مما فتح الباب للمزيد من التظاهرات والعنف، واستمرت معاناة أبناء الشعب فى سبيل الحصول على حقوقهم.
ومما لا شك فيه أن تعقد مفهوم العدالة الانتقالية فى مصر، وما يلابسه من لبس وغموض، يشكل تحدياً كبيراً فى مسار العدالة الانتقالية. فالتجربة فى مصر تتميز عما سواها من تجارب أخرى بالتعقيد والخصوصية، فهى معقدة لأنها ولأول مرة فى تجارب الدول تتعامل مع عدة أنظمة بائدة، ولذلك فهى «عدالة انتقالية مركبة» Multi-faceted Transitional Justice، بحسبان أنها لن تعالج فقط تداعيات نظام حاكم واحد، بل أنظمة متعاقبة، وهى خاصة لأن تتعامل مع العديد من الأطراف، ولأن الانقسام المجتمعى حدث على أساس دينى بين أبناء الدين والمذهب الواحد. فضلاً عن ذلك، فإن حالة اللبس والغموض الشديد التى ارتبطت بهذا المفهوم، والتى نتجت أساساً عن إساءة استخدام مفرداته، ومحاولة البعض تسخيرها لتحقيق أهداف سياسية أو مصالح شخصية، تمثل أكبر التحديات لمسار العدالة الانتقالية فى مصر. وزاد الأمر تعقيداً ترويج البعض لأفكار تربط مفهوم العدالة الانتقالية بمفهوم المصالحة الوطنية، أو بإجراءات استثنائية، مما أثار حفيظة شرائح عديدة من المواطنين وأثر سلباً على مسارها. وخطورة الإجراءات المتقدمة أنها أفقدت الثقة لدى طوائف عديدة من المجتمع فى كنه وذات المصطلح، فأصابته حالة من اللبس والسيولة، فزاد ذلك من حالة الاحتقان المجتمعى السائدة. وقد يكون السبب الرئيسى وراء ذلك المسارعة بإعلان الإجراءات المتقدمة بدون إجراء دراسات سابقة متعمقة، أو حوار مجتمعى شامل بشأنها، يتم من خلاله التوافق على آليات العدالة الانتقالية، وأطرافها، وزمان ومكان وكيفية تطبيقها، وهو درس مهم يجب أن نتعلمه عند رسم خارطة طريق للعدالة الانتقالية فى مصر. ومن بين الأسباب التى أثرت سلباً أيضاً على مسار العدالة الانتقالية، عدم وجود ظهير شعبى داعم له فى مصر. ولذلك فمن أهم واجبات السلطة أو الجهة المنوط بها ملف العدالة الانتقالية إعداد الخطط والبرامج والحملات الإعلامية التى يمكن من خلالها إعلام المواطنين بحقيقة مفهوم وأهداف العدالة الانتقالية وآليات تطبيقها، مع توضيح اختصاصات ومهام تلك الجهة، بهدف تكوين ظهير شعبى مؤيد لما يتم اختياره من آليات وإجراءات، وهذا ما عجزت وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية- المنوط بها ملف العدالة الانتقالية- عن تحقيقه، فاقتصر الحوار على النخبة، وانتهى الأمر إلى تكوين ظهير شعبى مناهض لفكرة العدالة الانتقالية، بعد أن تم ربطها خطأً بمفهوم المصالحة الوطنية الوطنية مع فصيل بعينه. ولذلك فهناك رسالة مهمة ملقاة على عاتق المؤسسات الإعلامية تتركز أساساً فى ضرورة إطلاع المواطنين على حقيقة مفهوم وأهداف العدالة الانتقالية وآليات تطبيقها، من خلال برامج وحملات للتوعية الجماهيرية، بلغة سهلة الوصول إلى المواطن العادى.