الأرض لا تلف حول نفسها....
نعم.. هناك أفكار تمنع التفكير.
كيف تجعل الأفكار تنتشر وتتوغل دون أن تتيح لأحد التفكير فيها، أو إعادة النظر، أو تغطى بها حقائق أخرى، ربما تعرفها، أو بالحماس وحسن النية لا تعرف أنها مجرد «غطاء زائف» يمنع الحقيقة.
اللعبة تحقق لصاحبها قمة النشوة.. نشوة سلطة غير مرئية فى حرمان آلاف وملايين الناس من النظر إلى الحياة بشكل مختلف... فى تعلم أفكار جديدة قد تجعلهم يتمردون على ما هو قائم ومستقر.
هكذا مثلا صادرت الكنيسة «فى القرن السابع عشر» كتاب جاليليو الذى يقول ببساطة إن الأرض تدور حول الشمس. صادرته طويلا لأنه ضد الفكرة السائدة التى تمنحها سلطة السيطرة على عقول البشر.
حكمت الكنيسة على جاليليو بالنفى والإقامة الجبرية فى بيت معزول.. وكانت على وشك قتله.
لكن جاليليو انتصر رغم لعنات الكنيسة. وانتصرت معه الحقيقة الكونية: الأرض تدور حول الشمس.
اللعبة إذن مستوحاة من الكنيسة، ويلعبها كل «حراس السلطة» بيقين كامل، يحطم معنويات الخصوم ويجعلهم يحاربون عمرا كاملا ليدافعوا عن أفكار تحرر البشر من سلطة تريد أن تمنع الاقتراب منها، وتحصل على «حماية» أو توكيل إلهى بأنها «المتحدثة الرسمية والوحيدة» باسم السماء... أو الوطن.. أو كيان كبير يحتمى البشر فيه من مخاوفهم الأبدية.
هذا صراع مسافات طويلة.. صراع حول حب الحياة.. فى مواجهة عشاق الموت وحراس كهنوته.
المعرفة الجديدة.. باب مفتوح لحياة أفضل.. وهذا ما يستفز سلطة تحشد دعاية ضخمة لكراهية الحياة... وسلطة أخرى: تريد السيطرة وتثبيت الأوضاع على ما هى عليه.
فى المقابل هناك أصحاب أفكار متمردة.. تكسر الثابت والمستقر. وتحب الحياة... أفكارها تصدم العقول والأرواح المتحجرة.
الصراع سياسى بين قوة ونفوذ السلطة القادرة على الاغتيال المعنوى «وأحيانا المادى» ومتمرد لا يملك إلا أفكاره.. وقوة التغيير والتجديد.. التى تراهن على الزمن.. فى مقابل كل فقهاء المصادرة «من كل الأديان.. والثقافات والأجناس والألوان.. ومن كل المستعمرات الوطنية».
المتمرد يدفع الفاتورة فورا: يطرد من رضا السلطة «دينية أو سياسية أو ثقافية».. ويكون مثل الخارج عن القطيع.. وحيدا، مصيره مهدد، وسمعته منتهكة، وحياته يمكن أن ينهيها متعصب أو جاهل تغلى الدماء فى عروقه، لأن هناك من أفتى أو أصدر حكما بأن هذا خائن أو مرتد أو عميل أو يحرض على الفساد الأخلاقى.
تحضرنى هنا الحكاية الشهيرة.. عندما قرر أحمد لطفى السيد خوض انتخابات البرلمان فى دائرة بريف مصر.. خصمه فى الانتخابات أراد الدفاع عن مقعده.. فنشر بين أهالى الدائرة السؤال الذى يبدو أنه دعوة للتفكير: «تعرفوا الباشا إيه؟».
ولم ينتظر الخصم إجابات.. وقال إجابته بشكل دراماتيكى: «.. الباشا ديمقراطى»،
قالها كأنه يكشف عن جريمة سرية... وتتالت آهات الأهالى وتعجبهم انتظارا لمعنى الكلمة الغريبة «ديمقراطى.. ياه.. ديمقراطى..!!»
الكلمة غريبة على أذهان الفلاحين المبهورين بالباشا القادم من القاهرة.. وشرح منافس أحمد لطفى السيد.. معنى الديمقراطية للأهالى ليمنع تفكيره.. قال لهم الديمقراطية يعنى أن ينام كل واحد مع زوجة جاره. فشل أحمد لطفى السيد فى الانتخابات... ونجح خصمه.
لكن أحمد لطفى السيد استمر فى معركة تحرير مصر إلى أن رشح كأول رئيس جمهورية بعد يوليو ١٩٥٢ ورفض.
واستمرت الديمقراطية التى أصبحت حلما كبيرا. وكذلك استمرت اللعبة التى تحرم الديمقراطية، وتدعو عليها فى الصلوات ليصل أصحابها إلى السلطة.. أو تعتبرها ضد الوطنية والدولة والاستقرار أو ستأتى بعد ٢٥ سنة....
يا عزيزى إنهم يريدون إثبات للناس أن الأرض لا تلف حول نفسها.