ايجى ميديا

الثلاثاء , 7 يناير 2025
ايمان سمير تكتب -وقالوا عن الحرب)مني خليل تكتب -اثرياء الحرب يشعلون اسعار الذهبكيروش يمنح محمد الشناوي فرصة أخيرة قبل مواجهة السنغالايمان سمير تكتب -عيد حبعصام عبد الفتاح يوقف الحكم محمود بسيونيمني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الرابعالمصرى يرد على رفض الجبلاية تأجيل لقاء سيراميكا: لماذا لا نلعب 9 مارس؟مني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الثالثمني خليل - احسان عبد القدوس شكل وجدان الكتابة عنديالجزء الثاني / رواية غياهب الأيام كتبت / مني خليلإحاله المذيع حسام حداد للتحقيق وإيقافه عن العملتعاون بين الاتحاد المصري للدراجات النارية ودولة جيبوتي لإقامة بطولات مشتركةغياهب الايام - الجزء الاول - كتبت مني خليلاتحاد الكرة استحداث إدارة جديدة تحت مسمى إدارة اللاعبين المحترفين،كيروش يطالب معاونيه بتقرير عن فرق الدورى قبل مباراة السنغال| قائمة المنتخب الوطني المشاركة في نهائيات الأمم الأفريقية 🇪🇬 .... ⬇️⬇️اللجنة الاولمبية تعتمد مجلس نادي النصر برئاسة عبد الحقطارق رمضان يكشف سر عدم ترشح المستشار احمد جلال ابراهيم لانتخابات الزمالكنكشف البند الذي يمنع الدكتورة دينا الرفاعي من الاشراف علي الكرة النسائيةوائل جمعة نتتظر وصول كيروش

إبراهيم عيسى: أحلام أُمِّى

-  
إبراهيم عيسى

كنت أخجل -لانفراط حزنى وفرط قلقها- من النظر إليها، هى أمامى تمامًا، وضعت كوب الشاى الساخن جوار الأريكة التى ألقى عليها روحى المتعبة، ولكننى لا أستطيع أن أنظر إلى عينيها، تجلس على أرض السجادة الزرقاء المفروشة وتسند ظهرها إلى حافة الأريكة المقابلة، وتتردّد هى الأخرى فى الحديث إلىّ، أُمِّى.. أعرفها وتعرفنى.

أمسك بكوب الشاى وحرارته تكوى غشاء مقاومتى، وجهها قبالتى، جميلة أُمِّى ليس لأنها أُمِّى فقط، بل تبوح صورة زفافها بذلك، قامتها الممشوقة ونَضَارة وجهها الصبوح، بياض بشرتها الحليبى، عيناها القويتان، أحمر الشفاه النحيل المرسوم فوق شفتيها، شعرها الأسود الفاحم المرسل على كتفيها، وقفتها فى ثوب الزفاف الأبيض المنقوش وطرازه الستينى الصافى، وأبى ببذلته السوداء وقميصه الأبيض وشاربه المنضبط يمسك بيدها، بقفازها الأبيض، وينظران إلى المصوّر.

حتى صورتها فى جواز السفر حين لحقت بأبى بعد عام من الغربة الأولى، كانت تفصح عن جمالها المالك، رغم حزن مطوى الجناح فى عينيها وتسريحة شعرها المختلفة عن ليلة الزفاف وثوبها الأخضر «يبين فى الصورة أسمر غامق» المنقوش بورد أبيض، وكنت أميل على كتفها برأسى «طفل فى الخامسة تتنبّأ عيناه، اللتان سيبدو ضعفهما فى ما بعد، بما يلقاه من أسى عند بوابة الخامسة والعشرين من عمره»، وتغاريد أختى فى منتصف الصورة أمام صدر أُمِّى، صغيرة ومنزعجة من الجلسة الصامتة، فحرَّكت يدها وعبثت فى الهواء الضيِّق، أما مُنى فقد كانت مثل القمر وقيمصها يكشف عن نحولة الجسد وبراءة لن تدعها أبدًا، وهى تعقص شعرها ذيل حصان وتبتسم فتظهر أسنانها «ستشكو منها بعد سنوات».

أُمِّى فى جواز السفر هى نفسها أُمِّى الجميلة، كتلك الصورة التى أرسلناها إلى أبى -فى غربته الثانية- بعد صورتنا الأولى بعشرين عامًا، نقف فى صالون المنزل أنا وإخوتى -زدنا عبير وشادى- وقد ابتسم إخوتى وأنا بينهم ببذلتى الزرقاء ورباط عنق -بتنا جميعًا نضحك على تملّصى منه وفشلى فى الخلاص من حزمته حول عنقى- وأُمِّى فى حجابها الأبيض وثوبها البنى الفضفاض بيننا جميعًا، تضع كفها على شادى صغيرنا الفطرى، وقد أرسل أبى خطابه التالى يشكرنا على إرسال الصورة ويغازل أُمِّى التى كانت تضىء الصورة «لا يكف أبى بعد ثلاثين عامًا من الزواج عن مغازلة أُمِّى وندائها باسمها الذى يدللها به».

نهضت أُمِّى من جلستها إلى المطبخ ثم عادت بطبق تُتَوِّجه قطع البسبوسة التى أعشقها، وضعته جوارى وهى تحفِّزنى على أكله مع الشاى، وترفض أن أسمع كلام أخواتى وأنقص وزنى وأكف عن الحلويات والأرز.

ثم عادت إلى جلستها ترقب شاشة التليفزيون، لكنها التفتت إلىّ..

- كيف حالك فى الشغل؟

كنت أحيانًا ما أعود من القاهرة إلى مدينتى، وعندما أدخل إلى المنزل أرى أُمِّى تخرج من حجرة الاستقبال ممسكة بحقنة تفك إبرتها عنها فى طبق بلاستيكى، أُقَبِّلُها وأسألها: مَن معكِ؟ فتخبرنى أنها السيدة هنيات، تأخذ حقنة كتبها لها الطبيب، تدخل أُمِّى إلى المطبخ للتخلُّص من الحقنة، أتابعها بعينى وأنا أصافح شقيقاتى، منذ سنوات صارت أُمِّى مدربة على إعطاء الحقن منذ إصابتها بمرض السكر واضطرارها إلى حقنة صباحية قبل الإفطار، فى البداية كان أحد الممرضين يحضر إلينا، ثم انتقدت عدم انتظامه وتبكيره، فقررت أن تتعلَّم إعطاء الحقن لنفسها دفعة واحدة، وكان أبى -برقّته العظيمة- يخشى من هذه التجربة ويؤكد عليها أن الممرض سيحضر بانتظام بعد تأنيبه، لكنها أبَت، وتعلَّمت كيف تكشف ذراعها، ثم ترفع الحقنة، تدخل السن فى جلدها، تدفع ذراع الحقنة للضغط على السائل حيث حقنة «الأنسولين» الصباحية التى عرفت شكلها جيدًا، ثم تعلَّم شادى نُطقها منذ طفولته المبكِّرة، حيث يشتريها من الصيدلى، وكنا نتابع ارتفاع سعرها الموسمى ونقيسه بارتفاع الأسعار فى كل شىء بالحياة.

ومن أيامها عرف شارعنا كله إمكانية الحضور إلى أُمِّى كى تعطيهم حقنًا كتبها لهم الأطباء، وبخجل مرحلى كان البعض يأتى إلينا، وبعطف شديد كانت أُمِّى تقوم بواجبها كجارة تنقذ جيرانها حتى صار الأمر كله طبيعيًّا، بل وصار الرجال أيضًا إذا ما اشتدت بهم الحاجة إلى حقنة عاجلة يحضرون إلينا طمعًا فى مساعدة أُمِّى، وكنا جميعًا نطلب من شقيقتى طالبة الطب أن تتعلَّم إعطاء الحقن، لإراحة أُمِّى، لكنها تعلَّمت ذلك بعد عام من تخرجها كطبيبة فى الوقت الذى كانت فيه أُمِّى قد تفوقَّت عليها فى خبرة إعطاء الحقن دون ألم.. لكن أُمِّى -أبدًا- لم يأتِ لها قلب -كما كانت تقول- وتعطى أحد أولادها حقنة، حتى عندما مرضت فى السرير شهرين بـ«التيفود» لم تفعلها مرة واحدة، فقد كانت متفرّغة لرعايتى وبكاء حالى ودعائها لى، وطمأنة أبى فى الهاتف على صحّتى.

تلتفت أُمِّى إلىّ.

- الوالد اتصل يوم الأحد.. وقال إنه بخير وسلَّم عليك كثيرًا جدًّا، ألم تكتب له خطابًا بعد؟ على فكرة لقد حلمت ليلة المكالمة أنه مريض، وفعلاً، كان صوته واضحًا فيه المرض فى المكالمة، سألته: مالك؟ فلم يُجب، لكن عرفت فى النهاية أنه كان مريضًا ثلاثة أيام.

أُمِّى سيدة الأحلام الطويلة، كانت تسرد أحلامها- إما بعد استيقاظها مباشرة- لأبى فى غرفة النوم وإما بعد عودته من صلاة الفجر، حيث يمكث فى السرير يقرأ آية الكرسى ويسبِّح ويحمد فتحكى له -وتكون قد استيقظت وأنهت صلاتها قبله- عن حلمها بأبطاله وشخوصه وتفسيراته الممكنة أيضًا، أو تحكيه عندما يعود أبى من المدرسة.. يضع حقيبته فى موضعها الثابت ويخلع ثيابه ويعلّقها على الشماعة بإتقان ودقة غير طبيعيين، ويضع حذاءه تحت السرير فى مكان لا يتبدَّل أبدًا، وفى هذه الطقوس اليومية تحكى أُمِّى حلمها، أو تسرده علينا جميعًا ونحن جلوس حول الغداء حين تقطع نصيبنا من الدجاج، وتمنحه لكل منّا بينما تحكى حلمها، وأُمِّى تملك قدرة على القص والرواية فى حلاوة سرد ووصف مدهشين واهتمام حافل بالتفاصيل الصغيرة، بل وتؤدِّى بصوتها بنفس طريقة نطق أبطال الحلم أو تشرح بكفّها معالم المكان الذى رأت نفسها فيه وتشبهه بمكان آخر نعرفه، وتعنى فى روايتها بالألوان وملابس الشخوص وانفتاح النوافذ وانغلاقها فى أثناء الحلم وإحساسها لحظة قيامها من النوم، ولأكثر من مرة تصحو أُمِّى لفترة -تصلِّى أو تشرب ماء أو تطمئن علينا- ثم تعود لتنام فيأتى لها الحلم نفسه ويُكمل صوره ومشاهده وناسه، وكانت تكرِّس خبراتها السابقة فى تفسير الحلم، إذا ما جاء التفسير سيّئًا تحاول أن تدارى أنصاف الجمل أو تبحث عن مداخل لتفسير آخر، أو تستشير أبى أو تعصف بكل قدرات الأحلام على التحقّق.

خشيت أن أسأل أُمِّى: هل حلمت بى أخيرًا؟

أجزم أن هذا قد حدث وأدرك أنها رأتنى مكدودًا محزونًا، وأنها حلمت بى أبكى فتاة شاهدت صورتها معى وأعطتها لابنة خالى الصغيرة حين دخلت علينا، وقالت لها: «شوفى يا أمينة عروس عمّك إبراهيم».

لكن أُمِّى -يقينى الوحيد بدفء لا يبرد وحب لا ينتهى وبقاء لا يفنى- لم تخبرنى بأحلامها الأخيرة عنى «آخر حلم حكته لى أننى كنت أجلس على مكتب مثل الذى رأته فى برنامج تليفزيونى مع صحفى كبير، كان (رغم هذا) فى وجهى تعب أو حزن ما فكانت بين فرحها بى وحزنها علىّ».

منذ سفر أبى لم تعد أُمِّى تحكى أحلامها واحتل أبى الغائب معظم أحلامنا.

قامت أُمِّى من جلستها، وفى سيرها نحو غرفة نومها سألتنى:

- متى تريد أن تصحو؟

قلت: التاسعة كالعادة.

لكنها بدلاً من أن تتجه إلى غرفتها سارت نحوى.

- مالك يا إبراهيم.. هل هناك شىء؟

نفيت متسرِّعًا وجلاً من تفتتى أمامها.

- أبدًا.. لا شىء.

عرفت أننى لن أجيب فاستدارت إلى نومها المتأخّر، حيث تنام مبكرًا إلا فى أيام وجودى تسهر معى ساعة أو أكثر ثم تدخل للنوم المتقطع، فأُمِّى لا تنام ساعات متواصلة على الإطلاق، أصابها الأرق بعد مرضها وسفر أبى وابتعادى وذهاب أُختى إلى الإسكندرية.

حين اختفى جلباب أُمِّى عنّى، أمسكت عيونى بكفّى لعلّها تتوقف عن البكاء.. سمعتها عند باب غرفتها تفتح بابها وهى تدعو لى:

- ربنا ينوّلك راحة البال يا إبراهيم يا ابنى.

وعرفت أنها ستحلم بى هذه الليلة.

التعليقات