لأسباب كثيرة لم أقاوم إعادة تلك الحكاية..
أحد هذه الأسباب هو احتفال الراديو بـ80 سنة... لكن أهمها شهوة تحويل الإعلام إلى بروباجندا صرفة... أو منصة للطغاة... هناك فارق كبير بين اللحظة التى نعيشها... ولحظة زهوة الراديو كوسيلة الطاغية فى حشد شعبه.. أولا لأن الدنيا تغيرت ولم يعد ممكنا السيطرة على الجمهور... والأهم لأن كل الطغاة الذين اعتمدوا على الراديو أو على البروباجندا عموما ساروا إلى نهايات سوداء...
الحكاية حكاها لى الأستاذ بهاء طاهر وله فى الفترة الأخيرة مواقف صادمة أو آراء تبدو خارج التوقع منه... «وهذا يحتاج إلى مناقشة مستفيضة فى ما بعد».. لكن ما يهمنى هنا أنه من جيل «الرسائل الكاملة» الذى يرى الأدب والفن والإعلام «تنويرا» لشعب يعيش فى ظلام الجهل... والأديب «داعية» إلى المعرفة والحقيقة.
الحكاية تبدأ من عند سيد قطب... وتلخص صراع الطغاة على أدمغة الجماهير...قطب بعد أيام قليلة من نجاح الضباط الأحرار فى 1952 كان مستشارا لمجلس قيادة الثورة أيام محمد نجيب «بالتحديد مستشار عمالى لضابط اسمه عبد المنعم أمين، الذى كان منتميا للإخوان»، وأيامها كان سيد قطب يدير الإذاعة تقريبا وأصدر تعليمات/ نصائح بعدم إذاعة الأغانى فى الإذاعة «... وعندما بحثت عن تفاصيل أخرى من حكاية الأستاذ بهاء عثرت على تعبيرات سيد قطب عن هذه الحالة التى طالب فيها بإسكات تلك (الأصوات الدنسة) مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد فوزى وليلى مراد وسيد درويش وعبد العزيز محمود.. ولكى يقنع الضباط قال لهم إن الإذاعة قد تفانت فى إرضاء الملك لمدة ربع قرن، وبات المطلوب تربية جديدة للشعب تظهر رجولته».
وحسب حكاية بهاء طاهر كانت تعليمات سيد قطب بأن يتحدث المذيعون بالفصحى «أى يلغى تراث وثقافة ولغة شعب من أجل مهام التوحيد القياسى»، وأن تقتصر إذاعة الأغانى على الأغنيات الدينية بالفصحى.. وبالفعل ظلت الإذاعة المصرية طوال 18 يوما تذيع نهج البردة ويتبعها «ولد الهدى» هكذا طوال اليوم.
... وهنا شعر المصريون بالملل وبحثوا عن إذاعة أخرى، ولم يجدوا وقتها سوى إذاعة «الشرق الأدنى»، التى كانت إحدى الإذاعات التى أنشأتها بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية وتبث من قبرص.
«كانت إذاعة الشرق الأدنى جزءا من خطة بريطانية ردا على إنشاء موسولينى إذاعات موجهة باللغة الإيطالية واللغات المحلية، وتوزيعه أجهزة راديو على جمهور واسع، خصوصا فى مصر فى أثناء الحرب العالمية، لكى يستمع إلى خطاباته، حيث كانت الفاشية رائدة فى مجال ما يسمى (قوة الراديو): أعطنى ميكروفونا أعطك شعبا مفتونا بالديكتاتور... الإذاعة التى تأسست فى يافا سنة 1942 ظلت علاقتها سرية بالحكومة والمخابرات البريطانية، رغم أنها كانت تعزز عبر نشرات أخبارها مكانة ووضع بريطانيا وقت غروب شمسها... وانكشف دور الإذاعة بشكل واضح فى العدوان الثلاثى بعد تأميم قناة السويس».
وكما يحكى بهاء، هجر الجمهور المصرى الإذاعة المصرية وتوجهت مؤشراتهم إلى إذاعة الشرق الأدنى، التى كانت تذيع إلى جانب أصوات نجوم الطرب المصرى صوتا جديدا فى الأغانى/ والإعلانات هو صوت فيروز... ويقول بهاء: كنت تسير فى شوارع القاهرة فلا تسمع سوى من أجهزة الراديو إلا صوت إذاعة الشرق الأدنى من الأغانى إلى نشرات الأخبار... ولم يعد أحد يسمع نشرات أخبار إذاعة القاهرة... وغضب عبد الناصر وقال لسيد قطب ومن معه: «إنتو عاوزين تكرهوا الناس فينا»، ورغم أنه ألغى قرار عدم إذاعة الأغانى فإن الجمهور ظل منصرفا عن الإذاعة المصرية ونشرات أخبارها، ففكر عبد الناصر فى طريقة لإعادة جمهوره... فخرجت فكرة مسلسل الخامسة والربع وقت إذاعة نشرة أخبار «الشرق الأدنى»/ وهى الفكرة المستمرة حتى الآن... وكان أول مسلسل «سمارة».