لا أزال كائنًا صوتيًّا، نعم ثقافة الصورة سيطرت على الدنيا كلها، ولكنى مع قلة -أغلب الظن أنها فى طريقها للانقراض- لا تزال تعطى أذنها للإذاعة المصرية، أول من أمس مرَّت 80 عامًا على إنشائها. مصر عرفت قبل ذلك التاريخ بنحو عشر سنوات الإذاعات الأهلية التى كانت تشبه عددًا من الفضائيات العشوائية التى نراها الآن، حيث التجاوز فى استخدام الألفاظ شىء عادى، حتى إن مطربًا وملحّنًا كبيرًا ومن أقوى الأصوات وهو الشيخ الضرير محمود صُبح، كثيرًا ما كان يُطلق فى مطلع العشرينيات شتائم بالأب والأم تنال من المطرب والملحن الشاب محمد عبد الوهاب، وفى برنامج ممتع قدَّمه الإذاعى الشاب إبراهيم حفنى، عبر إذاعة الأغانى استمعت إلى أمير الصحافة محمد التابعى، الذى روى أنه كان يناله أيضًا الكثير من شتائم صُبح، لأنه صديق لعبد الوهاب!!
من حسن حظّى أن مبنى الإذاعة والتليفزيون كان هو مقصدى اليومى للحصول على الأخبار، ورغم أننى كنت أعمل فى مجلة أسبوعية «روزاليوسف»، فإن النهم الصحفى كان يدفعنى للذهاب اليومى، ولا أنسى شخصيات التقيتها وحفرت فى ذاكرتى مكانة خاصة، مثلًا الكاتب الكبير بهاء طاهر، وكان فى النصف الثانى من السبعينيات رئيسًا لـ«البرنامج الثانى»، وهو ما أصبح بعد ذلك «البرنامج الثقافى»، كانت المشكلة التى تواجهنى أنه ليس لدىّ تصريح يسمح لى بدخول المبنى، والمجلة لم تعترف بى لأنى لا أزال طالبًا فى كلية الإعلام، ما كان يفعله الأستاذ بهاء طاهر أن يكتب اسمى بين عدد من الممثلين فى أى مسلسل، فأتمكّن من دخول المبنى حتى أقتنص الأخبار، ولم أكتب على المقابل خبرًا عن بهاء طاهر!!
أتذكَّر سامية صادق التى كانت تعتبرنى ابنًا ثالثًا لها. وجدى الحكيم كتبت ضده عن واقعة تقديم تسجيلات لأم كلثوم لإذاعة «الكويت»، واتصل بى وشرح لى حقيقة الموقف وصار بالنسبة إلىّ هو المصدر الأساسى فى الكثير من الأخبار، وجدى يتمتع بحاسة التقاط الحدث المثير ويمتلك ذاكرة حديدية تسأله عن أى رقم تليفون فلا يحتاج أن يلقى نظرة على أجندة، ولكنه من الذاكرة يستعيد الرقم وكأنك تسأله عن أسماء أبنائه!!
إنه الإذاعى الأول الذى تستطيع أن تقول وأنت مُطمئن إن الأرشيف الفنى للإذاعة المصرية مدين له بالقسط الأكبر مما احتفظت به ذاكرة الإذاعة المصرية من أحاديث لكبار مبدعينا.
القدير أحمد سعيد، لا يزال صوته هو عنوان إذاعة «صوت العرب» ودفع أحمد سعيد ثمن هزيمة 67، فلقد كانوا يهتفون باسمه فى الخمسينيات وحتى النكسة فى العديد من البلدان العربية، لما كانت تمثّله لهم إذاعة «صوت العرب»، وأطلقوا على الإذاعة المصرية اسم «صندوق أحمد سعيد» وكانت صورته توضع بجوار جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر على كراسات التلاميذ فى أكثر من بلد عربى، وبعد الهزيمة دفع ثمن الهزيمة وأبعدوه عن الميكروفون.
آمال فهمى التى كان ولا يزال برنامجها «على الناصية» هو الأول فى كل الاستفتاءات، توقَّفت قبل عام بسبب إصابتها بكسر فى قدمها، آمال هى أول مذيعة تجرى معى حوارًا وبعد إذاعته شعرت أننى أصبحت أشهر صحفى فى الدنيا.
الشاعر الإذاعى عمر بطيشة، وكان صديقًا لفايزة أحمد ومحمد سلطان، وبعد أن كتبت تحقيقًا أغضب فايزة وعنوانه «الشعب المصرى فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من صوت فايزة»، لأنها استغلَّت صداقتها بمحافظ القاهرة وأغلقت محل يبيع طعمية بحجة أن رائحة الزيت المغلى تؤثِّر سلبًا على أحبالها الصوتية، وكان عنوان التحقيق قاسيًا، وتم الصلح عن طريق عمر، وعاد صاحب محل الطعمية لمزاولة نشاطه، وأثبت عمليًّا أن رائحة الزيت المغلى تجلى الصوت، والدليل فايزة التى ظل صوتها يزداد تألُّقًا مع كل «طشَّة»!!
لا أنسى إذاعيين كبار مثل فهمى عمر، وفاروق شوشة، ونادية صالح، ومحمد مرعى، وسناء منصور، وإيناس جوهر، وأمينة صبرى، ونجوى أبو النجا، ولى العديد من الحكايات مع الراحلين الكبار، أمثال السيد بدير ومدحت عاصم وجلال معوض وطاهر أبو زيد وغيرهم. لهؤلاء أقول كل سنة وإذاعتنا بخير!!