اتصالا بكلام الأمس، فإن تغيير البيئة الرديئة التى صنعت ضعف أحزابنا وتياراتنا السياسية (قلنا إن الضعف ليس اختيارا)، ومن ثم عطلت وأعطبت أغلب شروط التطور الديمقراطى، أمر يحتاج إلى حزمة من الإجراءات والخطوات الجادة على الصعيدين التشريعى والسياسى، فضلا عن فسحة زمنية ليست قليلة، إذا لم نبدأها الآن فسوف تتسرب من بين أيادينا فرصة ثمينة يكفى لوصف أهميتها أنها نتاج ثورتين عارمتين وأسطوريتين، كانت الحرية واحدة من أقوى أبيات الأنشودة الصاخبة التى رددتها حناجر الملايين فى شوارع وميادين البلاد فى 25 يناير و30 يونيو.
ورغم أن الدستور الجديد وضع أساسا تشريعيا قويا ومتينا للدولة الديمقراطية التى نحلم بالعيش فيها، فإن أحكام الدساتير لا تطبق بذاتها وإنما عبر منظومات قانونية وتشريعية تنقل هذه الأحكام من مجال التبشير إلى مجال التأثير المباشر فى الواقع العملى، لهذا فقد أثار مشروع قانون الانتخابات البرلمانية الجديد الذى أعدته الحكومة ضجة وصدمة هائلتين يستحقهما، ليس فقط لأنه أول محاولة لترجمة أحكام الدستور ووضعها موضع التنفيذ فى شأن أهم وأخطر المؤسسات فى النظم الديمقراطية ألا وهو البرلمان، وإنما أيضا لأن هذه المحاولة جاءت مخيبة للآمال ومعطوبة عطبا شديدا، خصوصا من جهة انحياز المشروع التشريعى بوضوح وفجاجة لفكرة تكريس واقع ضعف الأحزاب، بل والإمعان فى تغييبها وتجاهل وجودها، كأن المطلوب هو الحفاظ على هشاشة الأحزاب لا العكس، وإبقاؤها ظاهرة هامشية لا تأثير لها فى مجريات الشأن السياسى فى البلد.
يعنى باختصار، إبقاء الحال على ما هو عليه.. مجرد رطان وثرثرة حول الديمقراطية، أما فى الجوهر فلا ديمقراطية حقيقية ولا تعددية ولا يحزنون!!
يظهر ذلك بوضوح فى موضعين اثنين جوهريين من مشروع القانون المذكور، أولهما حجز 80 فى المئة من مقاعد البرلمان لمن تأتى به الانتخابات عبر النظام الفردى الذى صار معروفا بأنه الباب الملكى لعبور نوعية من النواب، لا تملك أغلبيتها شيئا من مؤهلات النائب عن الأمة سوى المال والعصبية العائلية والاستعداد شبه الفطرى لنفاق من بيده سلطة الحكم، ولهذا فإن المعارك الانتخابية التى يدخلونها يغيب عنها بالمرة كل كلام عن سياسات أو برامج، وإنما السباق كله (تقريبا) يدور حول تفاهات من نوع كم حفلة عزاء أو زواج أو طهور وخلافه حضرها الأستاذ المرشح.
أما الموضع الثانى فهو نسبة العشرين فى المئة من النواب المتبقية، فقد جعل مشروع القانون انتخابهم يتم عبر نظام القائمة، التى لن يقتصر حق تشكيلها على أعضاء الأحزاب (وهذا أمر جيد ويمنع الطعن بعدم الدستورية) غير أن واضعى المشروع قرروا أن يحشروا فى هذه القائمة كل ممثلى الفئات التى ميزها الدستور تمييزا إيجابيا، كما جعلوها «مغلقة ومطلقة»، بحيث يفوز كل أعضاء القائمة التى تحصل على أعلى عدد من الأصوات (ولو بزيادة صوت واحد)، يعنى لو افترضنا أن 8 قوائم تنافست فى إحدى الدوائر وحصل 7 منها على 85 فى المئة من أصوات الناخبين فإن القائمة التى حصدت نسبة الـ15 فى المئة الباقية ستفوز بنسبة مئة فى المئة، وتخرج القوائم السبع الأخرى بحصاد صفر كبير!!
إذن القائمة بهذا الشكل، إضافة إلى صغر حجمها الذى يحجب أغلب إيجابياتها، سوف يتبخر عمليا ما بقى لها من إيجابيات بسبب عدم نسبيتها وانحيازها الصارخ لفكرة وحدانية التمثيل البرلمانى لا تعدديته.. وهو أمر يرجح أن النية تتجه إلى محاولة تأميم (لكى لا أقول تدجينا واستئناسا) البرلمان المقبل الذى يكتسب خطورته الاستثنائية من كونه معنيا ببناء وصناعة منظومة تشريعية ضخمة يفترض أنها ستنقل قيم ومبادئ وأحكام دستورنا الجديد من الورق إلى الحياة.
وصباح الخير.