بالتأكيد تظل غيرة الأزهر الشريف ودار الإفتاء على الإسلام محط تقدير واحترام من الجميع، فهما الحصن الحصين لآيات الذكر الحكيم. من الواضح أن هناك محاولة لتسجيل القرآن مصاحبا بآلات موسيقية قد تمت، هذا هو ما أشار إليه الزميل أحمد البحيرى أمس فى «المصرى اليوم»، وعلى الفور أصدر المفتى د. شوقى علام بيانا تحذيريا. كل هذا مطلوب بالطبع، إلا أن ما أراه مستهجنا، هو أن يتضمن البيان تعريضا بأصحاب الديانات السماوية الأخرى، حيث قال البيان نصا: «وإذا كان أهل الأديان السماوية السابقة قد حرفوا وبدلوا فى كُتب الله التى أنزلها الله عليهم لهدايتهم وإرشادهم، فإننا إذا أجزنا قراءة القرآن ملحنا موسيقيا وسماعه مصحوبا بآلات الموسيقى، نكون قد وقعنا فى ما وقع فيه غيرنا، وحرفنا كتاب الله وبدلناه، وفى ذلك ضياع للدين وهلاك للمسلمين».
لماذا يتورط بيان للمشيخة فى التعريض كما هو واضح بالتوراة والإنجيل، وهما الكتابان اللذان يؤمن بهما شركاء الوطن العهدان «القديم والحديث»، أعلم بالطبع أن القرآن يقر أن هناك تحريفا فى الكتابين، لكن ما علاقة ذلك بتحذير دار الإفتاء من استخدام الآلات الموسيقية مثل ما يحدث فى الطوائف المسيحية الثلاث: الأرثوذوكس والكاثوليك والبروتستانت، والمعروف أن البروتستانت هم الأكثر استخداما للآلات الموسيقية الوترية فى طقوس العبادة، بينما هناك قدر من التزمت فى ترانيم الأرثوذوكس.
ليس من حق دار الإفتاء أن تتدخل فى طقوس أى ديانة أخرى، كما أنه إذا كان الإسلام يقر بتحريف فى الإنجيل والتوراة فإن الكنيسة لا تعترف أساسا بالقرآن، فهل من الممكن أن يتقبل المسلمون مثلا أن يصدر بيان من الكاتدرائية يتعرض لشأن مسيحى ثم ينتقد على المقابل ما يجرى فى الإسلام؟ فإذا مثلا رفضت الكنيسة السماح بالطلاق، فلا يمكن أن يقبل المسلمون فى هذه الحالة أن يتضمن بيان للكنيسة أنها لا توافق على إباحة الطلاق أو تعدد الزوجات وتنتقد الإسلام.
إنها سقطة من شيخ جليل تدل على أنه لا يدرك أن لكل مقام مقالا، وأنه لا يملك فقط الحقيقة، لقد قال بابا الكاثوليك فى روما فرانسيس قبل بضعة أشهر وعند استقبال العام الجديد كلمة أراها عظيمة وعميقة وهى «أن كل الأديان صحيحة وعلى حق، طالما هى صحيحة فى قلوب من يؤمنون بها»، بابا روما كان يغسل أقدام صبى مسلم فى أحد السجون أسوة بالسيد المسيح عليه السلام، الذى لم يفرق بين أحد من البشر.
لماذا نصدر بيانا يثير حفيظة وغضب، فى الحقيقة ليس فقط المسيحيين فى مصر، لكن من الممكن أن يثير احتجاج كل من يؤمن بعقيدة أخرى غير الإسلام؟ فى أحيان كثيرة أرى المفتى تفلت منه مثل هذه التعبيرات التى تدل على أنه لا يفكر كثيرا فى ظلال كلماته.
وتبقى القضية، وهى تنغيم القرآن الكريم، سوف نكتشف أن هناك رغبة دفينة لدى المطربين لتسجيل القرآن والأذان، قبل أعوام قليلة سجل المطرب إيهاب توفيق الأذان، معلنا أنه يتمنى تسجيل القرآن كاملا، وأغلب الظن أن هناك معوقات عديدة حالت دون تحقيقه تلك الأمنية، مثلما سبق وأن أعلنها على الحجار ومحمد الحلو، ولن يذكر أحد السبب الحقيقى للمنع، وهو ممارسة الغناء.
أم كلثوم كانت تتمنى تسجيل القرآن كاملا، وهى بالطبع استندت إلى ثقافتها وقدرة صوتها على الأداء القرآنى، كما أن لها تسجيلا لآية من الذكر الحكيم فى فيلم «سلامة»، ولم يعترض وقتها أحد فى منتصف الأربعينيات، متعللا بأن صوت المرأة عورة، لكن الأزهر الشريف اعترض على رغبة أم كلثوم فى تسجيل المصحف كاملا. الموسيقار محمد عبد الوهاب ثقافته دينية، وكان يحفظ القرآن الكريم على يد شقيقه الكبير الشيخ حسن، فهو من دراويش سيدى الشعرانى بحى باب الشعرية، إلا أنه لم يجد ترحيبا من الأزهر لتسجيل القرآن رغم أنه تنازل عن طلبه فى البداية بأن يصاحبه فى التسجيل صوت نغمات للعود أشبه بالموسيقى التصويرية.
بالتأكيد دار الإفتاء هى مرجعيتنا فى كل الشؤون الإسلامية، ونحترم اعتراضها على تسجيل القرآن منغما، لكننا نرفض أن تتعرض دار الإفتاء لأصحاب الديانات الأخرى سماوية وغير سماوية.