من البديهيات التى لا تقبل الجدل فى علم السياسة، أنه لا نظام ديمقراطى حقيقيا من دون أحزاب تتفاعل وتتنافس بالبرامج والأفكار السياسية، التى تعكس الاختلاف والتناقض الطبيعى بين مصالح مكونات المجتمع من طبقات وفئات وطوائف متنوعة، وتحول هذه الاختلافات والتناقضات إلى موضوع للمنافسة الآمنة فى المجال العام، وليس سببا للصدام والشجار. كما أنه لا ديمقرطية كذلك، فى غياب كيانات أهلية حرة ومنظمة تتمتع بالاستقلال والتنوع وتنتشر على أوسع مساحة مجتمعية، سواء فى صورة نقابات أو منظمات وجمعيات تنشط فى كل مجالات الحياة.
طيب، إذا كان ذلك كذلك، فهل يستطيع عاقل «دعك من قطيع المخبرين المدربين فى مباحث التموين» التشكيك فى حقيقة أن هذا البلد دولة ومجتمعا ما زال يقف فى نقطة بعيدة جدا عن التمتع بنظام ديمقراطى رشيد، وكل ما يجرى من حولنا يؤكد أننا فى مرحلة المعافرة والجهاد لبناء أسس هذا النظام، وأننا نتقدم خطوة ونتعثر فى الأخرى (عصابة «إخوان الشاطين» كانت ولا تزال تمثل واحدة من أقوى أسباب التعثر).. أظن أن كل العقلاء المخلصين فى هذا البلد يعرفون ويعترفون بأن أمامنا مشوارا طويلا لتحقيق حلم الديمقرطية.
غير أن الضجيج الحالى لا يساعد أبدا على الشروع فى البناء وإنما يعطله ويزيد من صعوباته ويحدث تشويها خطيرا (بعضه بحسن نية وأغلبه شرير وعمدى) فى الوعى العام بما تتطلبه الديمقراطية من شروط وأسباب لا غنى عنها، أهمها وأكثرها لزوما فكرة وجود أحزاب وحياة حزبية نشطة ومزدهرة تستعيد السياسة التى تضررت وتضعضعت بقوة، حتى كادت تموت وتفنى تماما تحت ثقل نظامى مبارك والعصابة الإخوانية، اللذين استهلكا أكثر من ثلاثة عقود من عمر هذا الوطن.
فأما الضجيج الجارى حاليا فموضوعه وهدفه الوحيد هو التشهير بفكرة «الحزبية» من أساسه، وتصويرها على أنها فكرة شريرة ورجس من عمل الشيطان، وذلك استنادا إلى حقيقة قائمة فعلا، لكن الباطل هو السبب الوحيد لاستدعائها عمال على بطال، والطنطنة بها صباح مساء.. تلك الحقيقة هى أن الأحزاب التى عندنا الآن تتنوع وتتفاوت حالاتها ما بين الضعف الشديد والبؤس الرهيب (بعضها مضحك وكاريكاتورى بامتياز)، ولكن لأن الغاية من إلقاء الضوء على هذه الحقيقة ليس البحث عن أفضل الوسائل لتغييرها.
بحيث نتقدم على الطريق الذى ليس أمامنا غيره للنهوض واكتساب حقوقنا فى الحرية، وإنما الهدف -كما هو واضح- تكريس الوضع القائم منذ ما قبل ثورتى 25 يناير و30 يونيو وتحويل موضوع ضعف الأحزاب إلى حجة دائمة وعابرة للعصور والأزمان، تسوغ إدامة الاستبداد وإعادة إنتاج الديكتاتورية والقهر، اللذين أثبتا فى عقود وسنوات تاريخنا القريب أنهما أفضل وسائل لحماية النهب والظلم والفساد وتحصين كل صور وأشكال التخلف والتأخر.
لقد استوقفنى فى مكونات الضجيج التشهيرى الذى يحاصر أدمغتنا هذه الأيام، ويستهدف حشوها بمفهوم غريب وعجيب للحزبية يجعلها كأنها «شتيمة»، ومحض انحراف سلوكى يقع فيه كل من ينخرط فى حزب، ذلك التصوير اللئيم لحالة الضعف والبؤس التى تعانى منها أحزابنا عن طريق الإيحاء بأنها نتاج «اختيار حر» من السادة الحزبيين، وليس أنهم صاروا هكذا بسبب أن أحزابهم وهم أنفسهم ولدوا وشبوا وعاشوا معنا جميعا فى بيئة سياسية وتشريعية ومجتمعية مشوهة ومسمومة، لا تسمح أبدا بالنضج والتطور والتعلم من تراكم الخبرة.
المروجون لهذا الخبل والجهالة يكاد بعضهم يقول بصراحة ووقاحة: إن هناك من عرض على الأحزاب والقوى والتيارات السياسية المختلفة يسارا ويمينا ووسطا، أن تختار بين القوة والضعف فاختارت الأخير بمحض إرادتها، وذهبت لتنام قريرة العين فى بيت المسنين والعجزة!!