لم تضيّع الأكثرية أى مناسبة للتخوين منذ يناير، بداية بتخوين مَن لم يوجد فى الميدان، نهاية بتخوين مَن لم يوجد مؤخرًا عند صناديق الانتخابات، والأكثرية ذات الصوت الأعلى لقب تنقَّل بين جهات مختلفة الثوار، الإخوان ومؤيدى السيسى.
ولكن الفضل للمبتدى وإن أحسن المقتدى، وللأمانة يجب أن لا نتجاهل أن الأمر بدأ من الأصوات الطائشة فى ملعب الثورة والتى ظنَّت أنها تمتلك دفتر الحضور والانصراف فى الميدان، وبناءً عليه أصدرت أحكام الإعدام على كل مَن يوقّع فى الدفتر، ثم تنقَّل الدفتر مع تنقُّل خاصية الصوت الأعلى فى البلد من الثوار إلى الإخوان إلى مؤيدى السيسى.
اليوم يتم صرف حصة التخوين على البطاقة لكل مَن قاطع الانتخابات.
لا أحد يحتكر الحديث باسم الواجب والأمانة مثلما احتكر البعض من قبل الحديث باسم الثورة أو الدين، فما هو كتالوج الأمانة فى عمل قائم على الاختيار الحر؟ إذا فتَّشت فى النوايا ستجد نوعًا من المقاطعين كان أمينًا مع نفسه من وجهة نظره بعدم المشاركة فى انتخابات لا يؤمن بجدواها فهى محسومة (إذا كان المرشَّح الخاسر قال إنه يتقبَّل نتيجة الانتخابات رغم تحفظاته عليها تماشيًا مع اتجاهات الرأى العام التى تطالب بالمرشح الآخر).
فيما اتهام المقاطع بالخيانة؟
هل لأن غيابه سيؤدِّى إلى عودة الإخوان؟ هناك مقاطع يؤمن أن الشعب أصدر حكمًا نهائيًّا فى هذه المسألة ولا أمل فى الاستئناف.
هل لأن غيابه سيؤدِّى إلى فوز مرشحك بأغلبية ضئيلة؟ هناك مقاطع يؤمن أن من مصلحة هذا المرشّح أصلًا أن لا يفوز بأغلبية تحوّله إلى مستبد، وهناك مقاطع يؤمن أن كثرة الأصوات ليست هى الموضوع، فكم تساوى ملايين الأصوات التى حصل عليها النظام السابق، برلمانًا ورئاسة، مقابل لحظة غباء واحدة أفسدت كل ما سبق؟
هل لأن غيابه سيؤدِّى إلى اهتزاز صورتنا أمام العالم؟ العالم كان يرى أن ثورة يناير هى أعظم ما حدث فى القرن الجديد.. حضرتك رميت نظرة العالم فى الزبالة واعتبرتها مؤامرة.
هناك مَن كان شبه مقاطع وتأكّدت مقاطعته بعد التهديد بالغرامة والتحويل للنيابة، تلك الإهانة التى رأى كثيرون أنه من الواجب والأمانة أن تدفعهم إلى المقاطعة، شعب قام بثورتين فى فترة وجيزة ترى نفسك ما زلت قادرًا على سحبه من قفاه إلى اللجنة الانتخابية زى البهايم؟ شعب عزل رئيسين تهدّده بالنيابة إذا تخلَّف عن الصندوق؟ بالله عليك أيهما أحق باللوم، مَن أدَّى الواجب الوطنى تحت تهديد النيابة أم مَن قاطع احترامًا لكرامة ناسه؟
أى اختيار تفضّله؟ أن تطلق حكم الخيانة لتريح نفسك أم تحاول أن تفهم أسباب المقاطعة علّك تجد فيها ما يفيد؟
لن ينجح عمل قادم إلا إذا تمت دراسة أسباب انصراف الجماهير عن عمل سابق.. وينتهى العرض مبكّرًا إذا تم اعتبار الغياب عيبًا فى الجماهير وليس عيبًا فى العمل نفسه.
نجا بنفسه بل نجا بنا جميعًا مَن بذل مجهودًا قليلًا فى تأمُّل مواقف الآخرين وتفهمها بعناية، ومن استسهل التخوين فهو أعمى أو أحمق لم يتعلَّم من كل ما مضى، فلا أحد يستقر فى مكانه وإذا كانت الكلمة اليوم لوجهة نظرك واستسهلت التخوين فاستعد ليوم تتبدَّل فيه الأدوار وانظر حولك وتعلَّم كيف أن الثمن يصبح غاليًا ساعتها، وتذكَّر جيدًا كيف كانت كل كتلة تؤمن أن محطتها هى المحطة الأخيرة فى المشوار.