غداة انتهاء الانتخابات الرئاسية، خصص مقدم برامج شهير في قناة خاصة فقرة من برنامجه لمهاجمة قرار وزارة المالية فرض ضريبة على التعاملات في البورصة، باعتباره "خطأ" هدفه "العكننة على الشعب" و "إفساد فرحتنا" بنتيجة الانتخابات الرئاسية.
لم يتطرق الرجل في وصلته المطوّلة إلى قرار آخر أصدرته الوزارة نفسها، في غمرة الانشغال بالانتخابات الرئاسية، يقضي بتقليص دعم الطاقة 22% في الموازنة الجديدة، رغم أن "العكننة على الشعب" التي قد يسببها قرار كهذا يمس الغالبية بصورة مباشرة، أكبر كثيراً من قرار لا يمس سوى أقلية من المضاربين في البورصة.
لكن الهجمة التي سرعان ما شاركت فيها وسائل إعلام خاصة أخرى وانتهت بتراجع وزارة المالية جزئياً عن قرار فرض الضرائب، عكست لمحة من طبيعة الصراع الذي سيشكل عنوان المرحلة المقبلة.
لم ينتظر الصراع في معسكر الجنرال المتوّج انتهاء الانتخابات الرئاسية. الرهانات أكبر من أن تحتمل التأجيل. والأمر لا يقتصر على محاولة تشكيل التوجهات الاقتصادية للرئيس الجديد، بل يمتد لصياغة الرؤية الأوسع لإدارة الدولة وتحديد وجهة إعادة التأسيس الجارية للنظام.
وهنا يبدو افتراض أن لحظة إعادة التأسيس الحالية هي مجرد عودة لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، تبسيطاً واختزالاً مخلاً. فتأثير الثورة الذي غير شكل التوازنات بين أجنحة النظام وأعاد الكلمة الأخيرة إلى المؤسسة العسكرية يعني أن النظام قيد التشكل سيعكس محصلة هذه التوازنات الجديدة.
أطلقت الرصاصة الأولى في صراع التوازنات بعد ساعات من بدء التصويت، وطالت شظاياها شرعية انتخاب "المرشح الضرورة" حين استثمرت الأجهزة المستاءة من إقصاء محسوبين عليها من حملة عبدالفتاح السيسي، ضعف الإقبال في اليوم الأول للتحرك ضد خصومها المحسوبين على عمرو موسى الذين أداروا الحملة. كان الهدف قطع الطريق على الديبلوماسي العجوز المرشح للعب دور كبير في النظام الجديد.
وجدت الأجهزة ورجال أعمال الفرصة سانحة لتذكير الرجل بفواتير دعمه التي تنكر لها. انطلقت الحملات الهيستيرية في القنوات الخاصة تحذر من " الكارثة" التي سببها ضعف الإقبال. وبموازاتها، نشطت الشبكات والأساليب القديمة لرفع نسبة المشاركة على طريقة استفتاءات التسعات الأربع. بعدها، انتقل الهجوم الإعلامي للتركيز على جناح موسى المرشح أن يصبح وفريقه أول ضحايا هذا الصراع، باعتباره الحلقة الأضعف.
ويقدم مصير موسى وفريقه بعد تجربة حكومة حازم الببلاوي و"الجناح الديموقراطي" وقبلهما استقالة محمد البرادعي، دليلاً إضافياً على فشل رهان الإصلاح من داخل النظام وأن صراعات الغرف المغلقة تربحها دائماً الأجهزة الرافضة للسياسة وأدواتها.
صحيح أن السيولة التي تميز لحظات التأسيس والبدايات، قد تلتبس على إصلاحيين فيخالونها ثغرة لإصلاح النظام من الداخل. لكن عودة سريعة إلى الماضي القريب تكشف أن البدايات مضللة ولا تشي دائماً بالنهايات.
يكفي مثلاً أن تقرأ تقريراً من أرشيف جريدة "الجارديان" البريطانية (12/12/1981) عن بدايات حكم مبارك تشيد فيه نوال السعداوي بالرئيس الجديد آنذاك، قبل أن تؤكد أن "حاستي السادسة تخبرني بأنه يريد تغييراً حقيقياً".
يكفي أن تتذكر الرهان الخاسر لفريق من الثورة على إصلاح يقوده الرئيس المعزول محمد مرسي، قبل أن يستقر حكمه في قبضة الأجهزة التي سحقته بعدما صار وجماعته عبئاً عليها، رغم مغازلاته المستمرة ومحاولات السيطرة والاستمالة.
استعادت الأجهزة هيمنتها رغم الضربة التي وجهتها إليها الثورة وفي ظل رئاسة رجل من خارجها. فما بالك بعهد جنرال قادم من قمة هرمها؟
الرجل القادم من قلب الدولة العميقة قدره العودة إليها. وعنوان بداياته سيكون محاولة احتواء أو تحييد منافسين من الأجهزة يرون أنفسهم مشاريع رؤساء، على غرار ثنائيات أنور السادات و"مراكز القوى" ومبارك وعبدالحليم أبو غزالة.
وليست توكيلات دعم ترشيح رئيس المخابرات السابق مراد موافي التي ظهرت في اللحظات الأخيرة قبل الانتخابات، وقبلها انتقادات المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق للسيسي، إلا النذر اليسير الذي طفا على السطح مما يجري في أعماق النظام.
غير أن معركة السيسي مع منافسيه لن تحسم بالضربة القاضية كما كانت معارك السادات ومبارك. المواجهة هذه المرة لا يمكن حسمها بالتخلص من أشخاص.
مشاريع الخصوم هذه المرة ليست مجرد تعبير عن طموح شخصي زائد لجنرال متقاعد، بل تمثيل لشبكات مصالح متنافسة تشكلها ارتباطات أجهزتهم التي بات لكل منها "شركاء" في مجتمع الأعمال وأذرع إعلامية ناطقة باسمها ومعبرة عن توجهاتها.
الوقت أيضاً ليس في مصلحة الجنرال. ودخول الشرعية الشعبية طرفاً في المعادلة، بكل ما يعنيه ذلك من تقلبات غير مأمونة واحتمالات للاستخدام من قبل المنافسين، يصعب مهمته. وتبدو معه فرصة السيسي الوحيدة للاستمرار مشروطة بتسديد الفواتير للأجهزة وحلفائها والتفرغ لعقد المواءمات.
في هذه الأجواء، لا مكان للتيار الديموقراطي أو أصحاب المشاريع الإصلاحية الذين يفترض أن تكون معركتهم الحالية العمل على بناء بديل مقنع متكامل يتجاوز الشعارات والعموميات إلى التفاصيل، ويعبر عن مصالح الأغلبية التي ستكتشف عاجلاً أم آجلاً أن مشروع الجنرال لا يمثلها.
المعركة الحقيقية للثورة بين الناس، لا في غرف الدولة العميقة أو مكتب الإرشاد المغلقة التي يخسر الغرباء فيها دائماً.
Twitter: @mohamedhani