أكان «لا بد للغياب أن يكون»؟
تحرَّكت فوق المقعد الخشبى المزيَّن باسم المقهى، فارتعش بدنى من ارتباكى المفاجئ، ولهفى على الواجهة الزجاجية للمقهى، وقد بهت لونها البُنى الشفيف بعوادم السيارات الملتاعة، ودخان «الشِّيَش» المحموم الذى يتصاعد متكثّفًا ثم يتحلَّل عند باب المقهى.
طلّة جسدها المقدود، طلعتُها فوق مساحة الرؤية جعلتنى مباغَتًا، اندلع فى صدرى قذف نار وارتجّ بدنى، فيه رجفة مدوية.
كأنها تنزع قلبى من مكمنه، وتوقُّف ثقيل فى مخّى مثبَّت عند عبورها الوارف، كانت بقميصها الأبيض المخطط برقيق الحُمرة، وبنطال أسود محبوك فيه اتّساع خَجِل وعلى كتفها حقيبتها السوداء.
حين تلم شعرها يبدو فى منابته عند التفافه والتقائه بظهيرة العنق أشعة قمر ناعس تخرج من استدارته للسحب، كان خروج الشعر من المنابت حدثًا حين يبين فى تجلٍّ ينعتق له الجن من معقله، ينفلت جنون العشق من كوامنه ويلثم هذه الأمكنة الحالمة التى تعود عليها أناملها تدفع بالشعيرات الرقراقة إلى ذيل حصان مربوط بمشبك شعر أسود فيه رسم فراشة فضيّة تضغط عليه فيُصدر صوت «طرقعة» نحيلا ثم تبتسم لرجفة عينى لمرآها.
حاجباها مرسومان بدقة خلق الله، مضبوطان كميقات استدارة الكرة الأرضية، وعيناها الفسيحتان مشحونتان بالشجن، إطراق رأسها للخلف، يبدو أعلى عنقها فى عناقة لذقنها ملفوفًا ببياضه الحليبى وانسيابه متهدّلا كعسل النحل لحظة انزلاقه أسفل ذقنها يصبح الاحتمال مستحيلاً، والمستحيل فعلاً، والخرافة حقًّا، والصعود إلى شفتيها مفجّرًا لنواميس الكون بأسره، بسمة الشفتين وضمِّها للشفة السفلى بإصبعيها كانفتاق كأس زهرة معطّرة بالندى، ووردية الشفتين مع بشرة الوجه شريحة من وجنتى القمر.
غيابها حار، ومرّ يبقر قلبى ويحشوه حزنًا ولوعة، أسير حولى بلا هويّة، ولا مصير ولا مستقر، غرائب الكيمياء الحديثة التى ضبطتُ وجودى عليها وأعلنتُ يُتمى بغيابها، لم يكن الأمر سوى محض أيام وتعود، فى الهاتف أخبرتنى وتعثَّرت فى حلقى الأحزان فاندفعت غصة فى الحلق ودموع فى العين وارتجاف فى القلب، وأُخِذتُ لما كان ضوء شاحب يضفى على الردهة وجود النهار، أسندَت كتفها إلى الجدار وهمَّت أن تقول لكن شروع البكاء طل فصمتتْ تحبس حزنها عن التمرد، وتمنَّت أن تسعد هناك، وغابت.
لم تثمر الرجولة فى مواسمها أبدًا، هكذا انقضم وجودى، كان مطلوبًا منّى أن أصبر وأصمد، فليس الأمر قطيعة ولا الفراق أبديًّا.
ولكن الفقد كاسح.
لكن بعادها سحب منى المعنى واللفظ.
غاب القمر وكنت أحدِّث نفسى -وحسبنى الناس مجنونًا- كيف نعيش أربعة عشر يومًا دون قمر فى المدينة لا يحسب الناس لظهوره والتماعه وسموقه وعليائه، ولا يدركون غيابه؟! لكننى إذ أُفجع برحيله وأنشطر بذهابه، أعلِّق على صدرى دهشتى وفى شفتىَّ سؤالى، كيف لنا -ولى- مكوث نصف شهر دونه؟ وبِتُّ فى كل ممشى أتجه إليه، ومُسيَّرًا أُدفَع نحوه، أحس العتمة فى شوارع وسط المدينة عند حفيف الفجر بعد سهر طويل كأنى أدفس رأسى فى حلق البشر حتى لا أشرعها فأرانى وحيدًا، وعند المنطقة المحيطة بسكنى حتى مصابيح الكهرباء العامة انطفأت والنور العابر للسيارات تآكل وانسحب، وفى غرفتى عند يقظة مفاجئة فى غلظة الليل، أشعر كثافة الظلمة وافتقادى وجودى، على أى سرير، وفى أى اتجاه، ومعصمى حوله الساعة المستديرة أحسّها ولا أراها، فاقدًا الاتصال بالأزمنة والأمكنة.
أسير كأن أحدًا يضع كفّه على صدرى ويدفعنى إلى الوراء أو كأنما أقاوم ريحًا خماسينية ظلومًا تعطّلنى وتعوّقنى، وحين أدركت تيقَّنت أنه أنا، وأن شيئًا كان يمنعنى من العودة إلى دارى لأستطلع حزنى، يمنعنى من القدوم إلى الناس لأستبطن حزنى، فكنت أستحضر الجميلة الغائبة فأمرّ فى انفلات الرسول ليلة الهجرة.
وكانت تحضر لدىّ، فأصافح كفّها الناعمة، بكارة أصيلة لا يلوّثها عبور الأَكُفّ إليها، أتبعها، بجسدها المغلّف بنورٍ حاجب، هزّة بدنها تلوّن الوجود بزهزهة معجزة، فى تحركها غَنَج ملائكى ودلال فاضل، فيه زهو بكونها مصدر حياة، ونبع عيشٍ وشمس خلقٍ، وكنت أقول إن لها حق التِّيه علينا، ولنا حق المثول أمامها، رائحة فوحٍ نورانىّ عَبِق تبثّها فى لحظة جُثوِّى، محراب ردائها المفضى إلى الأرض، أتوق إلى اللثم، وأحن إلى التلمّس، وألهج بالنجوى وقربها الحنون، وشروقها المبهر يدفعنى إلى المكوث عند نصاعة وجودها ونظرتها الآسرة وكفّها الآمرة.
طلوعها من الغياب إلى طلّتها أمام المقهى -تسير فى استقامة تجاهل احتمال وجودى- فيتزلزل وجودى والوجود.
ضجيج الماكثين حولى يخفت إذ أبتعد منطلقًا خارج المقهى، كان الشارع صامتًا ورطبًا فيه غبشة فجر ووجه مغيّب متغضن ورائحة جوافة محمولة فوق النسائم.
الأسفلت الممتد فارغ من السيارات والمركبات، ومحطة البنزين خالية من الموجودات، بشرًا أو آلات، والرصيف على الجانبين خاوٍ بلا أحد.
لكنها لاحت وحيدة تسير فى امتشاق الأحلام، رجّة الجسد والأعضاء التى تعشق انتماءها إليها، أركض وراءها.
أكان لا بد للغياب أن يكون؟!
فَرِحًا مزهوًّا أستعيد صرحى وأقيم بنائى وأتفجّر باللوعة والشوق واجتياح الحياة، ولكن ما لها تبتعد إذ اقتربت؟تذهب إذ جئت؟ توقفت مذهولاً فقد كانت قدماها تختفيان، تتبخران دخانًا يذوى فى الهواء، ثم تُمحى ساقاها ويغيم الوجود أمامى حين يختفى ظهرها ولا يتبقَّى سوى عنقها العاتى وحيدًا سائرًا، ولكنه يرتحل بطيئًا متبخِّرًا فانيًا.
وكان ذيل حصانها آخر ما اختفى.