(1)
صبيحة أحد الأيام منذ نحو 12 سنة، كنا في حصة الأحياء المخصصة لشعبة علمي علوم بمدرستي الثانوية، وفي هذا اليوم الذي كنا ندرس فيه تركيب الحمض النووي DNA كان المدرس يجتهد في تفهيمنا الحكمة العلمية من كون الـDNA مزدوج الشريط وليس مفرد الشريط.
وأخذ يؤكد علينا واحدا واحدا على هذه النقطة، بوصف السؤال عنها هو أحد أكثر الأسئلة شيوعا على الإطلاق في امتحانات الثانوية العامة. وبينما نراقبه بأعين مترقبة وننصت إليه بحرص 12 طالبا متفوقا من هذا الطراز الممل الذي يحصد الدرجات النهائية بسلاسة، التفت أحدنا فجأة إلى الخبر المنشور في صدر الصفحة الأولى من جريدة الأهرام التي يضعها الأستاذ أمام مكتبه، حول كشف علمي جديد انتهى إلى أن الـDNA مفرد الشريط وليس مزدوجا!
أثار الموضوع هرجا ومرجا في الحصة، فما كان من الرجل إلا أن حسم اللغط (يطلع مفرد يطلع ثلاثي يطلع عفريت أزرق..ملكوش دعوة غير باللي في كتاب الوزارة.. دي الإجابة اللي لازم تجاوبوها عشان تاخدوا الدرجة.. ملكوش دعوة بالكشوف العلمية.. خليكوا في الكتاب!).
منذ هذه الواقعة، وبمعزل عما وصلت إليه نتائج البحث العلمي حول تركيب الـDNA لتمييز ما إذا كان مفردا أم مزدوجا، كان التعليم بقلبي مات.
(2)
يا صديقي الذي بالثانوية العامة، تركت الدراسة، وذهبت إلى الجامعة، وطلبوا منا إجراء بحث ما عن شيء ما (أصبح غير ذي قيمة في ذاكرتي) حين فوجئت ببحثي هذا ضمن أبحاث دفعتي، ثاويا في سلة مهملات ضخمة بالقرب من مكتب الأستاذ الجامعي الفاضل الذي طلبه منا.
ساعتها مات التعليم بقلبي مرة أخرى..
يا صديقي الذي بالثانوية العامة، في مصر لن تتعلم شيئا مطلقا..
(3)
حين ساقني القدر للانتظام لمدة أسبوعين في محاضرات عن الصحافة في إحدى الجامعات في نيويورك، لم أكد أخفي انبهاري بمنهج التدريس وطريقة تقديمه، حتى كادت إحدى المحاضرات أن تصيبني بصدمة حضارية وإنسانية بالغة حين أنهت محاضراتها الرائعة قائلة لطلابها، بصدق بالغ: «أنا أعشقكم! تفضلوا بسؤالي عن أي شيء تودونه..».
وحين كنت أقارن كلمات الامتنان الإنساني الراقي التي يتبادلها الأساتذة مع الطلاب (لديهم)، في مواجهة أساتذتنا الذين كانوا يفضلون تقضية نصف المحاضرة في انتقاد شخصياتنا وجيلنا وسلوكنا..كانت تتسرب إلي نفسي حسرة عميقة.
يا صديقي الذي بالثانوية العامة.. في مصر لن يعلموك ولن يحترموك.. ولن تخرج للدنيا واثقا في نفسك، استنادا على ثقة أستاذك فيك..أنت بنظره، مجرد حشرة. إذا سحقها، فهو مأجور، وإذا تركها فهو متفضل.
(4)
لا أعمم حالتي الخاصة على التعليم في مصر، فلكل صديق من أصدقائي قصة مع التعليم تصلح لاقتباس جملة ألف ليلة وليلة الشهيرة «لى حديث لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر» كمدخل لحكايتها..
يا صديقي الذي بالثانوية العامة لقد حاصرونا بكل السبل، تشوهوا وشوهونا.. فاهرب منهم بأقصى ما استطعت!
(5)
نصحت أخي الذي بالثانوية العامة، اقرأ واستمتع بالحياة، شاهد الكثير من الأفلام واذهب للسينما واجلس في المتنزهات العامة، وذاكر بالقدر الذي يرضي ضميرك ولا يرهق نفسك.. ذاكر إلى الحد الذي تكون معه شخصُ متزن، لا تنهك نفسك أنت لست ماكينة..
لا ترهق نفسك في كلام فارغ ومعلومات مغلوطة.. خذ رؤوس المواضيع وابحث عنها بنفسك على الإنترنت.. علم نفسك بنفسك..اذهب للندوات العامة.. انعش عقلك ووجدانك، إياك أن تترك نفسك فريسة لهم.. التعليم يا أخي الذي في الثانوية العامة، مدينة من الزومبي..المناهج وواضعوها، الامتحانات وواضعوها، مكتب التنسيق والمصرون على الإبقاء عليه، الجامعات بمنظومتها.. كلهم زومبيس ستطاردك.. فاترك مدينتهم وتعلم واستمتع بالحياة..
لن يتركوا لك الفرصة كي تعيش بصورة سوية، لن يتركوك كي تعلم نفسك، لن يتركوك كي تستمتع بالحياة، لن يتركوك إلا مسخا مثلهم، فاركض بعيدا عنهم وعلم نفسك بنفسك.. اهرب منهم واستمتع.. وادرس ما تحب أن تدرسه.. وتعلم ما تحب أن تتعلمه، ففي نهاية المطاف لن تعمل بالضرورة بموجب مؤهلك الجامعي.
يا أخي الذي بالثانوية العامة.. اهرب منهم!
(6)
الهاشتاج النشط #علمونا_صح الذي أنشأه طالب بالثانوية العامة هو وأخوه، ثم تحول إلى جائحة بامتداد البلاد وعرضها، مسجلا عشرات الآلاف من التفاعلات يجب أن يلفت نظر السادة الأفاضل في النظام المصري عموما، بوزاراته المتعاقبة.. ويجب أن يقول للجميع إن التعايش مع جرم التعليم في مصر لم يعد مقبولا..
ربما سيخرج طلاب الثانوية العامة يوما ليحرقوا كتبهم أمام مبنى وزارة التعليم ليتحرروا من رقهم لهذه الكتب السخيفة للأبد.. وليتحرروا من هذه المنظومة للأبد.. وساعتها لن يوقفهم أحد.
(7)
يا صديقي الذي بالثانوية العامة، لا تستسلم للضغط النفسي الذي يفرضه الجميع عليك..علم نفسك بنفسك، واستمتع بالحياة، فكل ساعة يسلبونك إياها لن تعوض مرة أخرى..
وكل ساعة تقحم نفسك فيها في منظومتهم الفاسدة، لن تضيف إليك شيئا بمقدار ما ستخصم من نقائك الذهني أشياء.
يا صديقي الذي بالثانوية العامة.. اهرب!
